مقالاتالمجالس التشريعيةالإنتخابات

ماذا يعنى فوز الديمقراطيين فى أمريكا؟

بقلم د. هالة مصطفى

جرت انتخابات التجديد النصفى للكونجرس بغرفتيه النواب والشيوخ, والتى تشهدها الولايات المتحدة بصورة دورية فى منتصف الفترة الرئاسية لأى رئيس أمريكى, فى جو من الانقسام والاستقطاب الحاد, الذى امتد إلى عمق المجتمع الأمريكى منذ وصول ترامب إلى البيت الأبيض, فشخصيته الصدامية وانحيازه لأفكار اليمين المتطرف وخطابه العنصرى بدت متجاوزة لكل القيم والمبادئ التى بُنى عليها وشكلت الهوية الأساسية لمواطنيه, كونه قائما تاريخيا على التنوع الثقافى والعرقى والدينى كما رسمت ملامحه مجموعة المهاجرين الأوائل لتلك الأرض الجديدة, التى كان يُطلق عليها أرض الفرص والأحلام.

لم يتردد ترامب فى الاصطدام مع هذه الثوابت, إذ عادى جميع الأقليات من أصحاب البشرة السوداء والإسبان والمسلمين والشرق أوسطيين والمرأة والمهاجرين وأنصار الحقوق والحريات المدنية والطبقات الوسطى والمثقفة والشباب, وصولا إلى الصحافة والإعلام لدرجة استنفرت تلك القوى مجتمعة ضده, مقابل رهانه على شعبيته وقاعدته الانتخابية بين أوساط القومية البيضاء بشرائحها المختلفة.

هذا المشهد انعكس بقوة على الانتخابات, التى اعتُبرت استفتاء على الرئيس وتوجهاته المثيرة للجدل, وبالتالى شهدت نسبة مشاركة وتصويت عالية ربما لم تعرفها انتخابات نصفية من قبل, وكانت فى عمومها لمصلحة الديمقراطيين الذين أظهروا بقوة الوجه الأمريكى الآخر المناقض له, وإذا أُخذت النساء فقط كمثال لاتضح أكثر هذا التضاد, فقد بلغت معدلات مشاركتهن والمقاعد التى حصلن عليها فى الكونجرس بمجلسيه أرقاما قياسية (113 امرأة, مائة منهن عن الحزب الديمقراطى, وجاء بعضهن من أصول لاتينية وعربية وإفريقية ومسلمة, أى أغلبهن من المهاجرات والأقليات) والشىء نفسه يسرى على باقى الفئات المشار إليها, وهو ما مثل تحديا لافتا لأفكار ترامب, الذى لم يحِد من ناحيته عن خطابه المعتاد, واللعب بورقة المهاجرين الذين قال عنهم إنهم يمثلون الخطر الأول على الأمن القومى واقتصاد بلاده, ما يعنى أنه استمر فى الاعتماد على مخاطبة القواعد الموالية له, دون الأخذ فى الاعتبار حجم التغيرات التى أحدثها بنفسه فى المجتمع الأمريكى, لذلك لم يكن غريبا أن يعمل كلا الطرفين على تكثيف استخدام أدوات الحشد والتعبئة والتى قادها ترامب بنفسه من ناحية والرئيس السابق أوباما من ناحية أخرى, وهى ظاهرة غير مسبوقة أيضا وكأن لحظة الانتخابات الرئاسية التى أتت بترامب إلى الحكم لم تنته, ولم يمر عامان على وجوده الفعلى فى السلطة, بل إن إنجازه الأهم على الصعيد الاقتصادى وزيادة النمو وتخفيض البطالة تم التشكيك فيه من قبل الديمقراطيين, على أساس أنه أتى فقط لمصلحة الأثرياء وسياساته الضريبية غير العادلة. هكذا استطاع الحزب الديمقراطى انتزاع السيطرة على مجلس النواب والفوز بالأغلبية بينما حافظ الجمهوريون على أغلبيتهم فى الشيوخ, إذن كيف ستؤثر تلك النتيجة على السياسة الأمريكية, وتحديدا الخارجية منها وما يتعلق بالشرق الأوسط؟

قبل الإجابة عن هذا السؤال تنبغى الإشارة إلى أن هذه النتيجة شكلت خسارة فعلية للرئيس, لفقدانه أغلبية المجلسين التى كان يتمتع بها, وتعطى له حرية كبيرة فى الحركة منفردا, ورغم ما يراه البعض من أنها لم تحقق فوزا ساحقا للطرف الآخر (الديمقراطى) وطموحه فى السيطرة على المجلسين, إلا أن ذلك لا يعنى أن المعادلة الجديدة لن تُحدث فارقا مهما فى ضوء الخصوصية المرتبطة بحكم ترامب والخلافات الشديدة معه, وهى حتما ستُحد من قدرته الأحادية على فرض رؤيته وسياساته, خاصة أن الديمقراطيين سيتولون رئاسة أهم اللجان فى النواب, وسيأتون بأجندة مغايرة تأكيدا لتميزهم, فعلى سبيل المثال سيسعون لإعادة إدماج مسألة الحريات وحقوق الإنسان كأحد محددات السياسة الخارجية بعدما أسقطتها إدارة ترامب تماما, وهو ما سينعكس على العلاقات مع الدول, فمجلس النواب هو من يُشرع القوانين الخاصة بالإنفاق والتمويل والمساعدات الخارجية وصفقات السلاح, وأيضا تلك المتعلقة بفرض العقوبات وقد يكثرون أيضا من اللجوء إلى جلسات الاستماع للمسئولين التنفيذيين ما يؤدى إلى الإبطاء فى اتخاذ القرارات الرئاسية, وقد بدأت تلك المعركة مبكرة قبيل الانتخابات حول بعض الملفات الساخنة, وفى مقدمتها العلاقة مع روسيا, سواء بسبب تدخلها فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية, وهى موضع تحقيقات ومساءلة قانونية, أو لضمها جزيرة القرم بالقوة فى أوكرانيا, وما تمثله من تهديد على أوروبا, وكذلك لسيطرتها شبه الكاملة على سوريا, حيث يطالب الديمقراطيون بتشديد وتفعيل باقى العقوبات عليها, وهى حزمة عقوبات شاملة اضطر الرئيس تحت ضغط الكونجرس للتوقيع عليها أغسطس الماضى, ولكن لم تدخل كلها حيز التنفيذ, وفى السياق نفسه كانت العلاقة مع السعودية محل جدل واسع على خلفية مقتل الصحفى السعودى جمال خاشقجى, واستمرار حرب اليمن على مدى أربع سنوات, وفى ظل تزايد مطالب الديمقراطيين لوقف أمريكا دعمها قوات التحالف التى تقودها السعودية والإمارات بجانب الجيش الوطنى اليمنى فى مواجهة الحوثيين المدعومين من إيران, لجأ الرئيس فى خطوة استباقية لوقف تزويد أمريكا طائرات التحالف بالوقود, فضلا عن تصريح وزيرى الخارجية والدفاع بضرورة إنهاء الحرب وإفساح المجال للتسوية السياسية والجلوس على مائدة المفاوضات, وبغض النظر عن موقف الحزبين, فهناك حرص من البيت الأبيض على استمرار العلاقة الإستراتيجية مع السعودية, للحفاظ على توازن القوى فى المنطقة والحد من التوسع والنفوذ الإقليمى لطهران, الذى يحتل أولوية قصوى للإدارة الحالية. هذه الأمثلة توضح نمط العلاقة الذى ربما يسود فى الفترة المقبلة بين الرئيس والكونجرس, والذى سيقوم فى الغالب على الحلول الوسط أو التوافقية فيما يمكن تجنب الصدام فيه, وإن لن يمنع ذلك عملية الشد والجذب المتوقعة بينهما والتى قد تتخذ منحى متصاعدا مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية, التى لم يتبق عليها إلا عامان, وهنا سيكون الصراع بين الديمقراطيين والجمهوريين مفتوحا, بل وسيخضع لكثير من المزايدات السياسية.

نقلا عن الأهرام

الوسوم
اظهر المزيد

اترك تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى

اكتشاف المزيد من المركز العربي للدراسات الأمريكية

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading

إغلاق
إغلاق