من المجتمع إلى النخبة: مخاطر الاستقطاب السياسي في الولايات المتحدة

بقلم: شادي محسن
مثّل المشهد الانتخابي الأخير في الولايات المتحدة حلقة جديدة في سلسلة طويلة من المظاهر التي تدلل على ظاهرة “الاستقطاب السياسي الأمريكي”، التي بدأت تتسلل إلى العديد من المستويات، مِثل: تصميم المؤسسات السياسية الأمريكية وشكل التفاعلات السياسية بداخلها، وفي المؤسسات الإعلامية التي شابها الاستقطاب كذلك. وفي الواقع فإن بدايات الاستقطاب في الولايات المتحدة لم تكن في المجال السياسي في بادئ الأمر، بل وجدت جذورها داخل المجتمع الأمريكي، ثم تسللت تدريجيًّا إلى الحياة السياسية في الولايات المتحدة؛ بسبب استمرار التوظيف السياسي لهذا الواقع من قبل النخب الأمريكية.
مجالات الاستقطاب في المجتمع الأمريكي
بالنظر إلى تاريخ الحركات الاجتماعية في الولايات المتحدة، سواء المدافعة عن المناخ، أو قضية الزواج والطلاق، أو حقوق السود، أو المدافعة عن حق ممارسة الدين في المدارس؛ يتبين أن ظاهرة الاستقطاب المجتمعي في الولايات المتحدة كان لها مجالات رئيسية، أبرزها ثلاثة، هي:
أولًا- العرق:
مهّد الصراع بين السود والبيض في بدايات إقامة الدولة الجديدة (أمريكا) لنشوب حرب أهلية بين معسكرين يحملان روايتين مختلفتين للدولة الناشئة (أمريكا الجديدة)؛ الأول يرى أن أمريكا دولة يحكمها عرق أبيض مسيحي الهوية، بينما يرى المعسكر الثاني أن أمريكا هي دولة علمانية، ودولة متنوعة ينصهر فيها الجميع بحقوق متساوية.
للولايات المتحدة -منذ تأسيسها- تاريخ طويل من النضال العرقي من أجل المساواة بين البيض والسود، واحتل “مارتن لوثر كينج” فصلًا كبيرًا في هذا التاريخ. ولكن بعد اغتياله شهدت الولايات المتحدة عشرات القتلى وآلاف الاعتقالات، بعد هدوء نسبي في السبعينيات والثمانينيات.
وتجدر الإشارة إلى أن أحدث الحوادث المتعلقة بهذه (الواجهة) هي مقتل “جورج فلويد” الأسود على يد الشرطي الأبيض (يونيو 2020)، والتي نتج عنها ظهور حركة “حياة السود مهمة” black lives matter.
ثانيًا- الأيديولوجيا:
ويُقصد بالأيديولوجيا هنا الهوية السياسية للفرد الواحد التي تصوغ وجهات نظره حول مجموعة من القضايا، مثل: قضية المهاجرين، نظام الرعاية الصحية، كيف ينظر المواطن للاقتصاد، وما هو الدور المناسب للدولة تجاه المجتمع، وغيرها من القضايا.
شهدت الولايات المتحدة في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات حراكًا أيديولوجيًّا واسعًا استهدف تجديد اتجاهات الأيديولوجيا الكلاسيكية في الولايات المتحدة. فظهر اليسار الجديد الذي ركّز على أهداف اجتماعية، غير مادية تمامًا، مثل: المساواة بين الجنسين والعرقين، وحقوق الإنسان، وحماية البيئة، وتدخل الدولة بشكل مكثف، وغيرها.. إلخ، وأصبح المنتمون إلى هذا التيار أكثر حرصًا على المشاركة السياسية، انعكست في الحركات الاجتماعية الاحتجاجية الواسعة.
في مقابل ذلك وفي الفترة ذاتها، ظهر تيار اليمين الجديد الذي حاول التأكيد على أهمية القيم التقليدية اليهودية المسيحية في المجتمع الأمريكي (وضع أمريكا على الطريق الإلهي، كما أسموه)، وفي وجه التحديات المتزايدة خاصة في طبيعة دور الدولة. يتضح ذلك في أن أول أنشطة تيار الإيفانجليكيين كان في منتصف السبعينيات تقريبًا.
ثالثًا- الدين:
ويُقصد بالدين منظومة المعتقدات والقيم التي يؤمن بها الفرد الأمريكي، وهي المؤسسات التي يجد الفرد وجوده بالانتماء إليها. ورغم أن عوامل مثل العرق والدين لا تدخل ضمن محددات التحليل للمجتمع الحديث لدى علماء الاجتماع، فقد لوحظ تنامي مؤشرات قوية تدلل على تزايد درجة التدين في المجتمع الأمريكي، والمطالبة بسن تشريعات تجرم الإجهاض، والحق في ممارسة الصلاة داخل المدارس، وتزايد حركة التبشير المسيحي التي قام بها التيار الإنجيلي المحافظ (البروتوستانت الأصولي الذي يلتزم بالتأويل الحرفي للإنجيل).
في تقرير لمعهد “بيو” للأبحاث (بتاريخ 16 يوليو 2020) ذكر أنه على الرغم من انخفاض نسبة المنتمين دينيًّا (65% فقط في 2019 من نسبة 71% تقريبًا في 2014) فإنه تظل الكنيسة والدولة تتشابك في كثير من النواحي في الولايات المتحدة، “وغالبا بدعم من الجمهور الأمريكي”. المسيحيون ككل -وخاصة البروتستانت والكاثوليك- لا يزالون ممثلين بشكل مفرط في الكابيتول هيل مقارنة بنصيبهم من سكان الولايات المتحدة، بخلاف أن نصف الأمريكيين يفضلون أن يكون للرئيس معتقدات دينية قوية. وفي هذا السياق، دفعت الإدارة الأمريكية الحالية لسن تشريع يتيح للطلاب والمدرسين الصلاة في المدارس، بل واعتبار الكتاب المقدس مصدرًا أدبيًّا وتاريخيًّا، ولم يتفاقم الخلاف حول الأمر من باب فصل الدين عن الدولة، بل من مسألة أي نسخة إنجيلية سيتم اعتمادها في المدارس الأمريكية.
انتقال الاستقطاب إلى المجال السياسي
تسببت المجالات الثلاثة المذكورة سلفًا في خلق توترات واختلالات ثقافية ومجتمعية بين النسبة الأكبر للأمريكيين، ووجود روايتين متضادتين للشكل الأمثل الذي “يجب” أن تكون عليه الولايات المتحدة. ويبدو أن النخب السياسية الأمريكية أدركت عمق التأثير الذي تسببت فيه الظواهر المذكورة سلفًا في المجتمع الأمريكي، التي في ظروف أخرى وفق مبادئ علم الاجتماع السياسي لما كانت ستدخل ضمن أطر تحليل المجتمعات الحديثة، وخاصة المجتمع الأمريكي. فبدأت هذه النخب في توظيفها سياسيًّا من أجل تمرير سياسات محددة، أو جذب شرائح مجتمعية محددة، أو لإدارة أزمة. ولا يُستثنى في ذلك أيٌّ من الحزبين الديمقراطي أو الجمهوري. ولكن أخذ انتقال الاستقطاب من البنية المجتمعية للأمريكيين إلى الحياة السياسية كيفية محددة كانت لها أشكال عدة، أبرزها هي:
أولًا- التوظيف السياسي:
(1) تحتل الإدارة الأمريكية الحالية برئاسة “دونالد ترامب” الفصل الأكبر من التوظيف السياسي للاستقطاب المجتمعي في الولايات المتحدة، والذي ظهر في حمله الإنجيل من أجل جذب شريحة البروتستانتيين الأمريكيين، وهو ما يعد توظيفًا للدين إدراكًا منه لصعود النزعة القومية الدينية في المجتمع الأمريكي. كما ظهر في الانحياز لصف الشرطة الأمريكية في قضية مقتل “جورج فلويد”؛ مثيرًا قضية العنصرية للتغطية على فشله في إدارة أزمة كورونا بما يعرف نظريًّا إدارة الأزمة بالأزمة.
(2) يمكن تفسير تصريح المرشح الديمقراطي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية من المقترب ذاته، إذ قال: “سنتجاوز أزمة كورونا، وسينصب تركيزي على أسر الطبقة المتوسطة، لا طبقة الأثرياء.. ليسوا هم من يحتاجونني”، مما يثير السؤال حول الهدف الذي يسعى وراءه “جو بايدن” من هذا التصريح.
يمكن تفسير هذا التصريح من خلال الأرقام التي نشرها تقرير لمعهد “بيو” الذي ذكر أن هناك 64% من الشباب الذين يعتبرون أنفسهم من الطبقة المتوسطة يعتقدون أن الحزب الديمقراطي يمثلهم، في حين يعتقد أغلب الأثرياء أن الحزب الجمهوري هو من يمثلهم. وهذا يفسر أيضًا نسبة إقبال الشباب على الانتخابات الأمريكية الأخيرة، مع العلم بأن الطبقة المتوسطة هي أكثر الطبقات التي عانت جراء أزمة فيروس كورونا المستجد الأخيرة، لذا من المنطقي أن يربط “بايدن” بين أزمة كورونا وهذه الطبقة من الناخبين الأمريكيين بالتحديد لجذبها لصالحه في الانتخابات.
ثانيا- الاستقطاب الحزبي بين الديمقراطيين والجمهوريين:
وهو السمة الأبرز للاستقطاب السياسي الأمريكي. في بداية إدارة “أوباما”، أوضح المشرعون الجمهوريون عزمهم معارضة الأجندة التشريعية للرئيس “باراك أوباما”، وإلحاق الضرر برئاسته بما يكفي لحصرها بولاية واحدة. وبدأ أول ملامح الاستقطاب السياسي ضد “أوباما” في الترويج لأصله وديانته بأنه مسلم، فاضطر “أوباما” إلى العمل التنفيذي من أجل تمرير القوانين والتشريعات، بل واستخدام الفيتو ضد بعض التشريعات؛ مما أثار مسألة تحول “أوباما” إلى السلطة الديكتاتورية.
كما انتقل الاستقطاب السياسي إلى المؤسسات، إذ كرّس الجمهوريون في مجلس الشيوخ أنفسهم لعرقلة أكبر عدد ممكن من التعيينات القضائية، وقرروا تقييد تعيين القضاة الذين اعتبروهم مخالفين لرؤيتهم الاجتماعية والسياسية للبلد. أحدث ملامح هذا المؤشر كان بعد وفاة القاضية “روث بادر جينسبورج”، حيث أثارت مسألة وفاتها إشكالًا حول الطبيعة الأيديولوجية للمرشح البديل لها إذا كان جمهوريًّا أو ديمقراطيًّا، وهو ما يعكس عمق الاستقطاب السياسي.
الخلاصة
عندما تصبح المواقف السياسية لبعض الدول مشوشة، ينصب الاهتمام على إيجاد أدوات تحليلية إضافية للمساعدة على فهم الاتجاهات الجديدة للدولة، وتكون أغلب هذه الاتجاهات الجديدة صادرة عن قلب المجتمعات، مثل المجتمع الأمريكي. ومن هنا يمكن القول أولًا إن هذه الكيفية التي ظهر بها الاستقطاب السياسي كان لها العامل الأبرز في انتقال ظاهرة الاستقطاب من الأسفل (أي المجتمع الأمريكي) إلى الأعلى (حيث النخب السياسية)، بخلاف دور الإعلام الذي وظفه الحزبان الديمقراطي والجمهوري لبث رسائل الاستقطاب. وثانيًا أنه قد تصل درجة الكراهية للآخر إلى دفع المرشح الرئاسي بالاكتفاء بمعاداة المرشح المقابل من أجل الفوز بالانتخابات دون حمل أجندة سياسية واضحة. وثالثًا، أن التصميم المؤسسي للديمقراطية الأمريكية غير مناسب بشكل فريد لتمرير التشريعات وإنجاز المهام الأساسية الأخرى للحكم في ظل ظروف الاستقطاب الحزبي الشديد، خاصة عندما تتهيأ الظروف لأن يكون الرئيس الأمريكي مخالفًا لطبيعة الكونجرس أو الشيوخ أيديولوجيًّا.