الاقتصاد الأمريكي بعد انتخاب بايدن: إلى أين؟

يَتَمَثَّلُ أحد الأسباب الرئيسة في فوز جو بايدن بانتخابات الرئاسة الأمريكية بأن مقاربته للتعافي الاقتصادي اختلفت كثيراً عن مقاربة ترمب؛ فقد أراد ترمب إعادة الاقتصاد إلى مساره من خلال التقليل من شأن جائحة كورونا؛ لذلك أطلق حملةً من أجل إعادة فتح القطاعات الاقتصادية المختلفة بسرعة والعودة إلى الحياة الطبيعية، لكنَّ رسالة بايدن كانت على العكس تماماً، ومفادها أن الطريقة الوحيدة لإعادة فتح القطاعات وعودة الاقتصاد إلى الوضع الطبيعي تتمثل بجعل جائحة كورنا في مُقدِّمة الأولويات. واتفق ترمب وبايدن على نقطة واحدة، هي أن الاقتصاد يُمَثِّلُ أهمية قصوى بالنسبة للناخبين، غير أنهما اختلفا حول طريقة إصلاح الاقتصاد.
دور الاقتصاد في فوز ترمب ثم سقوطه
يحظى الاقتصاد بأهمية كبرى في مجال السياسة. ويرى المحللون أن فوز ترمب في انتخابات عام 2016 يُعَدُّ نتاجاً ثانوياً رئيساً للأزمة المالية عام 2008، والركود الاقتصادي الذي تلاها. ودفع انهيار الرأسمالية المالية الأمريكية من خلال أزمة الرهن العقاري الحكومةَ الأمريكية إلى إنقاذ المؤسسات المالية الأمريكية من خلال حزمة تحفيز مالي. لكنَّ الاقتصاد لم ينهر، غير أن معدلات البطالة ارتفعت، وشهدت الأجور حالةً من الركود، لكنَّ الأهم من ذلك كله أن التفاوت في الدخل ارتفع إلى مستويات جديدة. وتشهد الولايات المتحدة اليوم من بين جميع مجموعة الدول الصناعية السبع أسوأَ وضع في عدالة توزيع الدخل القومي، وهو المقياس المستخدم في حساب الفجوة بين الأغنياء والفقراء.
وقادت كل هذه الديناميات إلى ردة فعل اجتماعية وسياسية ضد “سياسة المؤسسة” في أعقاب الأزمة المالية. وجاء التعبير عن ردة الفعل هذه في عهد إدارة أوباما من خلال بروز “حركة حزب الشاي” في اليمين (اسم حزب الشاي إشارة إلى “حزب الشاي في بوسطن” وهو عبارة عن حركة احتجاجية ظهرت عام 1773 في مدينة بوسطن ضد الضرائب التي فرضتها بريطانيا، حيث ألقى المحتجون الشاي البريطاني الذي تحمله السفن البريطانية الراسية في ميناء المدينة في البحر)، وبروز بيرني ساندرز في اليسار. وتُعَدُّ هاتان الحركتان من الحركات الشعبوية التي تعارض العولمة والنظام. كما أدت الأوضاع التي تلت الأزمة المالية عام 2008 إلى زيادة الاستقطاب السياسي، والغضب المجتمعي. وقادت كل هذه العوامل الاجتماعية-الاقتصادية، مقرونةً بتراجع الوظائف في قطاع الصناعات، إلى أمر يصعب تصوره في انتخابات الرئاسة الأمريكية عام 2016، حيث خاض دونالد ترمب المعروف بكذبه وشعبويته وميكافيليته المنافسةَ على الرئاسة الأمريكية بصفته غريباً عن السياسيين ومعادياً لهم، وهزم السياسيين المحسوبين على المؤسسة؛ جيب بوش منافسه الجمهوري من يمين الوسط، وهيلاري كلنتون منافسته الديمقراطية من يسار الوسط. ويرى الاقتصاديون أن هذا الفوز القومي المناهض للمؤسسة والنخب والعولمة يُعَدُّ نتاجاً واضحاً للزلزال المالي عام 2008، والهزات الارتدادية السياسية التي تلت ذلك.
وإذا ما اعتبرنا الاقتصاد أولويةً في التحليل السياسي، فإننا سنرى مرةً أخرى أن ديناميات مشابهة حدثت خلال انتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة؛ إذ إن خسارة ترمب لانتخابات 2020 نتاجٌ واضح أيضاً للتراجع الاقتصادي الناجم عن جائحة كورونا. ولولا الركود الذي نجم عن فيروس كورونا، فقد كان من المحتمل فوز ترمب. وقبل جائحة كورونا بلغت معدلات البطالة في الولايات المتحدة نسبة 3.5%، وهو رقم قياسي. وبحلول صيف 2020 وفي غضون أشهر ارتفعت معدلات البطالة بنحو أربعة أضعاف لتصل إلى 14.5%؛ أي ما يقارب من 30 مليون عاطل عن العمل يتقدمون بطلبات للحصول على إعانات البطالة. وبدأت أرقام البطالة اليوم بالتراجع بشكل بطيء، غير أنها ما زالت مرتفعة. كما شهد الاقتصاد الأمريكي قبل الجائحة نمواً قوياً، وزيادةً كبيرة في متوسط الدخل. وجاء هذا الأداء الاقتصادي القومي في عهد ترمب بعد نحو عقد من الركود في الأجور خلال الفترة 2007-2017.
باختصار فقد كان ترمب يحقق نتائج اقتصادية قبل جائحة كورونا، وكان من المحتمل أن يفوز بفترة رئاسية ثانية. وجاءت خسارة ترمب بسبب الاقتصاد كما كان حال فوزه عام 2016 بسبب الاقتصاد. ويمكن للمرء أن يقدم تفسيراً من خلال أخذ أهمية الاقتصاد على محمل الجد.
الاقتصاد الأمريكي والنموذج الكينزي
لعل من المهم اليوم بالنسبة للمراقبين من الخارج فهمَ أن الاقتصاد السياسي الأمريكي يعمل بموجب نموذج قوي للعالِم الاقتصادي جون مينارد كينز الذي قد يكون أكثر علماء الاقتصاد تأثيراً في القرن العشرين؛ فقد أدرك كينز أن الأسواق ليست مثالية دوماً، وأن بقاء الرأسمالية يعتمد على إدارة الإخفاقات المزمنة. ويربط معظم الأشخاص اقتصاديات كينز بقيام الحكومات بالإنفاق للخروج من الركود الاقتصادي، وهي سياسة نراها متبعة في أرجاء العالم. لكنَّ كينز في الحقيقة طرح مقاربة جوهرية وفلسفية للاقتصاد تتجاوز بوضوح العجز في الميزانية. وافترض الاقتصاديون، قبل أن يعمل كينز على إحداث ثورة في هذا المجال، أن البشر أفراد عقلانيون عازمون على تعظيم الأرباح، لكنَّ كينز استند في عمله بدلاً من ذلك على التقلبات والأحداث غير المتوقعة التي دفعت الناس والأسواق إلى الاستجابة بطرق غير عقلانية. وجاءت نظرية كينز نتاجاً لأوقات مضطربة خلال النصف الأول من القرن العشرين، وتحديداً خلال الفترة 1915-1945، وهي السنوات التي شهدت الحرب العالمية الأولى، والركود الاقتصادي الكبير والحرب العالمية الثانية.
يُعْرَفُ كينز برأيه الذي يُفيد بأنه ينبغي للحكومات تحمّل العجز من أجل معالجة التراجع الاقتصادي، إذ يتعين على الحكومات إنفاق المال حتى لو وجب عليها الاقتراض من أجل تعافي الاقتصاد. وعلى مدار السنوات التسعين الماضية اتفق الجميع مع كينز، وحتى المحافظون على الأقل عند وصولهم إلى السلطة في واشنطن. وتسبب السياسيون الجمهوريون -من ريتشارد نيكسون مروراً برونالد ريجان وصولاً إلى جورج بوش الابن ودونالد ترمب– في عجز ضخم باسم النمو الاقتصادي، وقاموا بذلك دون التسبب بانهيار في الثقة أو بأزمة مالية.
خطط التحفيز وما بعدها
يسود إجماعٌ في أوساط الجمهوريين والديمقراطيين على أن الولايات المتحدة لا تعاني من فيروس فتاك فحسب، بل من بنية تحتية متهالكة، ونظام رعاية صحية ضعيف، واقتصاد متعثر بحاجة إلى المساعدة أيضاً، في الوقت الذي وصلت فيه أعداد الوفيات في الولايات المتحدة جرّاء فيروس كورونا إلى 300,000. ويشترك الحزبان في هذا التشخيص، غير أنهما لا يتفقان حول الوصفة لعلاج كل ذلك. ويتمحور الاستقطاب حول ما يجب فعله إزاء الديون المتزايدة. ويُفضل أحد هذين المعسكرين تقديم مساعدات مالية غير محدودة تقريباً، في الوقت الذي يشعر فيه المعسكر الآخر بالقلق إزاء الديون والتضخم ومعدلات الفائدة في المستقبل، لذلك يُفَضِّلُ المعسكر الأخير التقشف وشد الأحزمة.
ويتمثل تصور كينز من أجل معالجة كل هذه المشاكل الهيكلية حالاً برَدٍّ حكومي شبه عسكري للبدء في حملة لبناء المستشفيات وتقديم الرعاية الصحية، بما في ذلك إصلاح الطرق والجسور، وتوفير وسائل نقل عامة صحية، واستنفار كافة العاملين في مجال تقديم الرعاية الصحية بالتزامن مع تقديم رواتب سخية لتشجيع الناس للانخراط في عمل ينطوي على مخاطر دون شك. ومما لا شك فيه أن مثل هذه الجهود ستتطلب أموالاً ضخمة تصل إلى تريليونات الدولارات. لكنَّ كينز يُصرُّ على أن الحكومات التي تسيطر على الأموال تستطيع تحمل الاقتراض. ويتعين على هذه الحكومات القلقَ من احتمال انهيار الثقة أكثر من ارتفاع الديون أو من بعض التضخم في المستقبل. فحتى يبدأ الاقتصاد بالنمو مرة أخرى ينبغي إقناع الناس بالاستهلاك، والمستثمرين بالاستثمار.
واستجابةً للتراجع الحاد في الاقتصاد الأمريكي في الربيع الماضي، اتخذ الكونغرس إجراءات كينزية صارمة لدعم الشركات والأسر التي عانت نتيجة خسارة الدخل. وكان قانون “كيرز” الذي أقرّه صانعو السياسة الأمريكيون في أواخر مارس الماضي، عبارةً عن حزمة إعانات اقتصادية ضخمة بقيمة 2.2 تريليون دولار، تضمّنت 1200 دولار من الدعم المالي التحفيزي الذي يُدفع لمرة واحدة لمعظم دافعي الضرائب الأمريكيين، بالإضافة إلى إعانة بطالة أسبوعية إضافية بقيمة 600 دولار للعمال المُهمّشين. ومن شأن هذه الإعانة المالية الإضافية ضخ السيولة في أيدي المُستهلكين، ما يُساعد على الحفاظ على الإنفاق الاستهلاكي، والنهوض بالاقتصاد. ومع ذلك، لم تأذن الحكومة الفيدرالية بحزمة تحفيز كبيرة منذ تمرير قانون “كيرز”، ويرجع ذلك أساساً إلى المقاومة التي يُبديها الصقور في صفوف الجمهوريين في الكونغرس في هذا الخصوص، والذين يخشون من ارتفاع العجز المالي نتيجة تلك الحُزم التحفيزية الكبيرة.
وفي الواقع، تتفاقم المخاوف بشأن ضعف الاقتصاد نتيجة الخشية من التوقّعات المالية الفيدرالية طويلة الأجل. وحتى قبل الوباء، كان من المتوقّع أن ترتفع نسبة الدَّين من الناتج المحلي الإجمالي باستمرار، وأن تتجاوز بكثير المستويات المُرتفعة السابقة. ويمكن أن يُعزى الارتفاع المتوقّع في الديون إلى أمرين: أولاً، شيخوخة السكان وارتفاع تكاليف الرعاية الصحية التي ترفع الإنفاق الفيدرالي على الضمان الاجتماعي والرعاية الطبية. وثانياً، مع ارتفاع نسبة الدَّين من الناتج المحلي الإجمالي، فإن مدفوعات الفائدة الصافية على خدمة الدَّين ستميل عموماً إلى الارتفاع مُقارنةً بالاقتصاد أيضاً. ويرى المُعسكر الكينزي بأن مثل هذه المخاوف بشأن الديون لا معنى لها في أوقات الركود، وأنه في البيئة الحالية لأسعار الفائدة المنخفضة ثمة حاجة أكبر لزيادة الاستثمارات في الاقتصاد. لقد أدّى الوباء إلى انخفاض أسعار الفائدة، ومن المتوقّع أن تستمر هذه المُعدّلات المُنخفضة حتى عام 2034، ما يجعل الديون الجديدة المتراكمة خلال فترة الأزمة هذه ذات كُلف مالية قليلة نسبياً.
ومع ذلك، فإن الصقور في الكونغرس الذين يخشون ارتفاع العجز ويفضّلون عدم إقرار المزيد من الحوافز، يركّزون على مُعدّلات الدَّين التي من المُقرّر أن ترتفع بشكل مُطّرد بين عامي 2025 و2050، وفي هذه الحالة ستنمو مدفوعات الفائدة الحكومية بشكل كبير. ونتيجةً للانكماش في الاقتصاد، وبسبب تنفيذ حزم إغاثة مالية كبيرة، فقد قفز العجز في عام 2020 إلى 3.1 تريليون دولار، وهو أعلى بكثير من توقّعات ما قبل فيروس كورونا للعجز بنحو تريليون دولار. وارتفعت نسبة الدَّين إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى 98% في نهاية السنة المالية 2020، مقارنةً بتوقّعات ما قبل فيروس كورونا، التي تنبأت بارتفاع الدين بنسبة 81% فقط من الناتج المحلي الإجمالي؛ لذا، أبدى الجمهوريون في مجلس الشيوخ اهتماماً ضئيلاً بالموافقة على صفقة جديدة كبيرة للإغاثة المالية. ونَصح زعيمُ الأغلبية الجمهورية، ميتش ماكونيل، البيتَ الأبيض بعدم القيام بذلك قبل الانتخابات. وهكذا انتهى التمويل على مستوى الحكومة في 11 ديسمبر، ووافق الكونغرس في اليوم نفسه على مشروع قانون تمويل مؤقّت لتجنّب الإغلاق الجزئي.
ولم تُستأنف المفاوضات بشأن حزمة تحفيز جديدة بشكل جدّي حتى أوائل شهر ديسمبر الجاري، عندما كشفت مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ من الحزبين عن خطة بقيمة 908 مليارات دولار. وستشمل تلك الحزمة، من بين تدابير أخرى، 288 مليار دولار من المُساعدات للأعمال الصغيرة، و180 مليار دولار من إعانات البطالة، و160 مليار دولار من المساعدات إلى الولايات والحكومات المحلية. وكان جو بايدن، الرئيس المنتخب، يضغط على الكونغرس للتوصّل إلى اتفاق بشأن إقرار حوافز جديدة قبل أن يتولى منصبه للحفاظ على الانتعاش الاقتصادي القائم. كما حثّ جاي باول، رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي، المُشرّعين الأمريكيين على الموافقة على حزمة دعم مالي جديدة لتسريع الانتعاش.
وكان مجلس الاحتياطي الفيدرالي قد أشار في سبتمبر الماضي إلى أنه لا يتوقّع رفع أسعار الفائدة حتى نهاية عام 2023 على أقرب تقدير. ومع ذلك، لا يزال صقور الكونغرس قلقين؛ فهم يعلمون أن التضخّم غير متوقّع على المدى القصير، لكنهم يعتقدون أن التحفيز المالي خلال الوباء يختلف عن برامج الإغاثة المالية التي نُفّذت بعد الأزمة المالية في عام 2008، حيث قام مجلس الاحتياطي الفيدرالي في ذلك الوقت بضخ الأموال في النظام المصرفي، والذي ظل خاملاً في الغالب. والآن، تم استكمال إجراءات مجلس الاحتياطي الفيدرالي بحوافز مالية مُرتبطة بالموازنة بأكثر من ضِعف حجم الحوافز التي تم اعتمادها في عام 2009، حيث تلقّت الأسر المُساعدة آنذاك من خلال عدة تدابير مالية، مثل إعانات البطالة الموسّعة، واستطاعت كذلك توفير حوالي ربع تلك الإعانات، كما انتعشت أسعار العقارات والأسهم، وتراكمت المُدّخرات لدى العديد من الأسر.
وبين منتصف عام 2007 ومنتصف عام 2009، تم شطب حوالي 10 تريليونات دولار من الميزانيات العمومية المُخصصّة للأسر والمُنظّمات غير الربحية. وبين الربعين الأول والثاني من عام 2020، قفز إجمالي الثروة بنحو 8 تريليونات دولار. وعلاوة على هذا الاستهلاك المكبوت، فإن أولئك الذين يتوقّعون حدوث التضخّم يشيرون أيضاً بأصابعهم إلى الصين؛ فعلى مدى العقود الثلاثة الماضية، أدّى دخول العمال الصينيين إلى القوى العاملة العالمية إلى انخفاض الأجور. والآن، أصبحت أجور العمّال في الصين تواكب الأجور العالمية إلى حد كبير، وأدى تراجع العولمة إلى تقليل تأثير الصين في الأسعار الأمريكية. وفي الماضي، عزّز العامل السكاني ودخول المرأة إلى القوى العاملة تأثير الصين، بينما نجد الآن أن السكّان في العالم يَشيخون، واستقر مُعدّل مُشاركة الإناث في سوق العمل.
التوقعات
في نهاية المطاف، وكي يكون تحمّل الديون مُمكناً، يجب أن تكون هناك ثقة سياسية في الإدارة والقيادة الأمريكية في الداخل وعلى الصعيد العالمي. وينبغي على أولئك الذين يستثمرون في الديون الأمريكية المُتنامية –أي أولئك الذين يواصلون شراء السندات الأمريكية وأذون الخزانة والأسهم الخاصة- أن يكونوا واثقين من أن عائدات الضرائب الحالية والمُستقبلية في الاقتصاد الأمريكي ستكون كافية لسداد الديون المُتراكمة، الأمر الذي أثار السؤال بشأن الجوانب التي سيتم فيها إنفاق الدَّين.
إذا تم استثمار الأموال، التي يتم جمعها من خلال الديون الجديدة، في مشاريع البنية التحتية ذات العائد المُرتفع، فإن الإيرادات المُستقبلية الإضافية ستُدفع لتسديد الديون الإضافية. ومع ذلك، إذا تم إنفاق الأموال على الدعم الكبير الذي تحتاج إليه الأسر الفقيرة والضعيفة، فقد يظهر بعض التضخّم المُحتمل في الأفق. وعلى المدى الطويل، إذا تصاعد العجز، فإن الدائنين الجُدد سيطالبون بمعدلات فائدة أعلى -بما في ذلك ربما علاوة لمخاطر التضخّم- وسوف يسقط الستار على عصر أسعار الفائدة شديدة الانخفاض والاقتراض غير المحدود.
يبدو أن فريق بايدن الاقتصادي والمالي مُستعدٌ لتحمّل هذه المخاطرة. فمن المُثبت أن جانيت يلين اقتصاديةٌ كينزية بامتياز، وستبدأ عملها كأول وزيرة للخزانة في الولايات المتحدة بمؤهلات أفضل بكثير من ستيفن منوشين، الذي لم يكن لديه خبرة حكومية قبل أربع سنوات، وكرئيسة سابقة لمجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي ومجلس المستشارين الاقتصاديين يُمكن القول إن يلين هي الشخص الأكثر تأهيلاً وكفاءةً على الإطلاق لتولّي مثل هذه الوظيفة. وبالمثل، فإن نيرا تاندين، التي رُشّحت لمنصب مدير مكتب الإدارة والميزانية، لديها خبرة عامة واسعة. لقد صنعت تاندين أعداء لها في الكونغرس، ما قد يُعرّض المصادقة على تعيينها للخطر، لكنها تظل أكثر كفاءةً لإدارة الميزانية الفيدرالية من مارك ميدوز، الذي يشغل حالياً هذا المنصب بنظام الدوام الجزئي، أو سلفه ميك مولفاني، وكلاهما جمهوريان من حركة الشاي وليس لديهما خلفية في المناصب العليا.
وخلال الحملة الانتخابية، كرّر بايدن القول إن الإجراءات المالية التي تم تبنيها في بداية الوباء لم تكن كافية، وانتقد ترمب لفشله في قيادة الكونغرس لتبنّي اتفاق تحفيز مالي جديد. لكن لا يزال من غير الواضح إلى أي مدى سيتمكّن بايدن ومستشاروه من صياغة مفاوضات التحفيز المالي في الأسابيع المُقبلة. وسيعتمد الأمر إلى حدٍ كبير على قدرة الديمقراطيين على استعادة السيطرة على مجلس الشيوخ، والتي ستتقرّر عبر جولتين من انتخابات الإعادة في جورجيا في أوائل يناير. وفي حالة فوزهم، وهو أمر غير مُرجّح، يمكن لبايدن على الأرجح الدفع بتجاه اعتماد خطة التحفيز الاقتصادي التي يريدها، والتي تزيد قيمتها عن تريليونَي دولار، بيد أنه في حالة عدم السيطرة على مجلس الشيوخ سيتعيّن عليه أن يقبل بخطة إنقاذ اقتصادي بأقل من ذلك بكثير. وإذا ظل مجلس الشيوخ جمهورياً، فإن مشروع الإغاثة المالي المُقلّص من شأنه أن يُضر بآفاق النمو في الولايات المتحدة لعام 2021. وسيأمل الرئيس بايدن بعد ذلك في أن تؤدّي حملةَ لقاح كورونا إلى إخراج الولايات المتحدة من الوباء بحلول أوائل الصيف، الأمر الذي من المُرجّح أن يؤدّي بدوره إلى انتعاش اقتصادي قصير المدى.
أما على المدى الأطول خلال السنوات الأربع المُقبلة، فستعتمد أساسيات الاقتصاد الأمريكي على الإنتاجية والاستهلاك المحلي والعلاقات الاقتصادية مع الصين. وبالرغم من الحرب التجارية التي خاضها ترمب ضد الصين، فإن الفصل المُحتمل للاعتمادية المتبادلة بين الصين والولايات المتحدة لم يصل إلى الصفر. ومع ذلك، سيُظهر الوقت فيما إذا كانت العودة إلى سياسة المؤسسات ستعني عودة العمل كالمعتاد للعولمة. والأمر المؤكّد الوحيد هو أن الفريق الاقتصادي الموجود في ظل قيادة بايدن سيكون أقل ميلاً للجوء إلى الحمائية والنزعة القومية والانعزالية. لقد عاد الراشدون إلى سدة الحكم، لكننا لسنا مُتأكّدين فيما إذا كان السياق العالمي ومجلس الشيوخ الأمريكي سيتعاونان معهم أم لا.
خلاصة واستنتاجات
- يتمحور الاستقطاب بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي في كيفية التعافي من الركود الاقتصادي، وقد فشل الحزبان في إقرار حزمة تحفيز ثانية بسبب خشية الجمهوريين في الكونغرس من ارتفاع العجز المالي الذي قفز إلى 3.1 تريليون دولار، في حين أن نسبة الدَّين إلى الناتج المحلي الإجمالي ارتفعت إلى 98% في نهاية السنة المالية 2020.
- سيعتمد إقرار خطة التحفيز المالية الكبيرة على قدرة الديمقراطيين على استعادة السيطرة على مجلس الشيوخ، والتي ستتقرّر عبر انتخابات الإعادة في جورجيا في أوائل يناير. وفي حالة فوزهم، وهو أمر غير مُرجّح، يمكن لبايدن على الأرجح الدفع بتجاه اعتماد خطة التحفيز الاقتصادي التي يريدها (بقيمة تريليونَي دولار)، بيد أنه في حالة عدم السيطرة على مجلس الشيوخ سيتعيّن عليه أن يقبل بخطة إنقاذ اقتصادي بأقل من ذلك بكثير.
- من شأن مشروع الإغاثة المالي المُقلّص أن يُضر بآفاق النمو في الولايات المتحدة لعام 2021، وسيأمل الرئيس بايدن بعد ذلك في أن تؤدّي حملةَ لقاح كورونا إلى إخراج الولايات المتحدة من الوباء بحلول أوائل الصيف، الأمر الذي من المُرجّح أن يؤدّي بدوره إلى انتعاش اقتصادي قصير المدى.
- سيعتمد أداء الاقتصاد الأمريكي على المدى الطويل، أي خلال السنوات الأربع المُقبلة، على الإنتاجية والاستهلاك المحلي والعلاقات الاقتصادية مع الصين. ومع أن الفريق الاقتصادي لبايدن سيكون أقل ميلاً للجوء إلى الحمائية والانعزالية، إلا أنه من غير الواضح ما إذا كان السياق العالمي ومجلس الشيوخ الأمريكي سيتعاونان مع إدارة بايدن أم لا.
المصدر: مركز الإمارات للسياسات