بايدن والشرق الاوسط بين خطة اعادة التشكيل وارهاصات استمرار الفوضى.

خاص بالمركز العربي للدراسات الأمريكية
بقلم: ياسر الغسلان
بات الحديث عن عودة الموجة الثانية لما يسمى بـ “الفوضى الخلّاقة” بإعتباره أمر محتوم وذلك مع عودة الإدارة الديمقراطية للبيت الأبيض مطلع هذا العام، على اساس أن الموجة الأولى انطلقت في فترة الرئيس الديمقراطي السابق باراك أوباما فيما عرف بالربيع العربي بداية العشرية المنقضية، وهو حديث يشوبه الكثير من مجافاة الحقيقية خصوصا إذا ما علمنا أن الفوضى الخلاقة كمفهوم سياسي دارج اليوم يرجع لأدبيات الإدارة الجمهورية التي رأسها جورج بوش الابن في أعقاب أحداث سبتمبر والتي أتت على لسان مستشارته للأمن القومي كوندوليزا رايس التي ارتأت مع باقي صقور تلك الإدارة ضرورة أن يعاد تشكيل المنطقة العربية والإسلامية بشكل يضمن بقاء الأزمات المتجذرة التي أنتجتها المنطقة على أراضي المنطقة الملتهبة ذاتها وضمان عدم تصديرها مجدد للأراضي الأمريكية كما حدث في هجمات الحادي عشر من سبتمبر وهو الحدث الذي فتح المجال لأمريكا لإعادة كتابة السياسة وصراعاتها بالشكل الذي أصبح عليه الحال في السنوات اللاحقة.
إن القول إننا نواجه موجة ثانية لهذه الفوضى يشير بشكل أساسي إلى أن الموجة الأولى قد إنتهت بالفعل، كما يشير إلى أنها تتضمن خطة مستحدثة تعتزم الإدارة الأمريكية تطبيقها في المنطقة العربية والإسلامية قد تتشابه وقد تختلف نتائجها مع تلك الموجة التي انطلقت نهاية العام ٢٠١٠ في تونس، إلا أن التسليم بأن الفوضى كانت قد بدأت مع البوعزيزي و إسقاط نظام بن علي يعد خطأ جوهرياً بالنظر لما مر به العالم العربي منذ غزو العراق عام ٢٠٠٣ مرورواً بكل ما وقع على هذه الأرض من تجارب إختبار لجميع القوى الدولية والإقليمية، الأمر الذي جعل العراق بعد سقوط نظام صدام المسرح المثالي للفوضى الخلاقة التي من خلالها مُكّن البدء في تصدير عدم الإستقرار لباقي الدول العربية ذات الأنظمة الهرمة، وعليه فالفوضى الخلاقة بدأت بالفعل قبل التاريخ الذي يعتبره البعض لحظة البدء، فمنذ غزو العراق تعيش المنطقة العربية في فوضى خلاقة تعمل على إعادة تشكيل المنطقة بالكامل.
ترامب و أربعة سنوات من الفوضى
من يقرأ السنوات الأربعة الأخيرة وهي فترة إدارة الرئيس الجمهوري دونالد ترامب لابد أن يصل لقناعة بأن الموجة الاولى لم تنتهي أبداً، بل كانت مستمرة وتتمدد وتتشكل وتتحور بأشكال و لاعبين وإستهدافات أخرى، فنجدها مثلاً في استمرار بؤر التوتر ذاتها في كل من سوريا ولكن بديناميكيات مختلفة وفي اليمن من خلال صراعات جديدة وفي ليبيا عبر لاعبيين جدد وتجاذبات متشابكة، كما أننا رأينا حراكا ملتهباً وثورة شعبية في لبنان تمكنت من إسقاط الحكومة دون القدرة على تغيير النظام الطائفي فيها، ومثلها في السودان التي تمكنت من إسقاط الحكومة والنظام وتغيير انتمائها بالكامل، وفي الجزائر حيث ثارت ثم عاد كل شيء لسابق عهده، دون أن ننسى ولادة أول تجلي لديمقراطية حقيقية في العالم العربي في تونس بعد ١٠ سنوات من ثورتها.
تجليات الفوضى الخلاقة في عهد ترامب شهدت أوجه وأهداف ومستهدفون جدد اضيف لها اهتزازات قد تُقرأ بأكثر من طريقة، إلا أن جميعها يأتي في سياق خلق حالة فوضى أو إعادة تشكيل للمنطقة ليصبح شكلها مختلفاً عن ما كان عليه منذ عقود، فمن جانب أُبرمت أربعة اتفاقيات بين العرب وإسرائيل فيما يعرف باتفاقية إبراهيم، حيث وقعت دولاً حليفة للسعودية كالإمارات و البحرين مع الدولة العبرية تاركة الشقيقة الكبرى وحدها خارج التوافق المعتاد في القضايا السياسية الجوهرية والتي تجلت في أحدى أوجه هذه الفوضى المستمرة بالأزمة الخليجية التي أعلنت الموت السريري لما يعرف بمجلس التعاون الخليجي رغم محاولات الإنعاش الإعلامي والسياسي والذي لا يتجاوز في صلبه عمليات فك إشتباك والاتفاق على عدم التعاون الكامل، كما تمكنت إيران وأعوانها من التجرؤ على ضرب داخل الأراضي السعودية وهو أمر لم يكن ليكون في ظروف اعتيادية سابقة، إلى جانب تمكين هذه الفوضى للظروف التي حولت حراك المعارضة السياسية والحقوقية الخليجية من مجرد أصوات نشاز في المحيط الإعلامي العربي كما كان الحال تاريخياً إلى قوة تأثير سياسي في أروقة القرار الدولي، الأمر الذي أنتج اليوم وسيلة ضغط حقيقية كانت الدول الخليجية و العربية في غنى عنها لولا أن الفوضى في عهد ترامب التي أُقحمت فيها الدول أنتجت أزمات داخلية وخارجية وإرتفاع الحِس والبطش الأمني للحكومات، الأمر الذي خلق البيئة الخصبة للأصوات المطالبة بالحقوق مع تجاوب المجتمع الدولي معها بشكل إستثنائي.
في عهد ترامب اختلت التوازنات في المنطقة عن ما كانت عليه لعقود طويلة ربما منذ نشأة تلك الدول والذي تمثل بوجود أمريكا ضامنة للاستقرار الإقليمي سياسياً وعسكرياً، فانكفأ الرئيس الجمهوري عن لعب دور بلاده التقليدي مما أدى لتحول العالم العربي والخليجي على وجه الخصوص إلى مسرح لتنافس بين دوله المختلفة بعضها غير معلن ولكنه معروف وبعضها الآخر معلن وشرس، كل ذلك بهدف الهيمنة على الإقليم في سباق الفوز بمركز الشرطي الجديد للمنطقة.
الحزبين .. إختلاف في التكتيك تطابق في الإستراتيجية
وإن كنا هنا قد سلمنا بأن الفوضى الخلاقة تلك لم تتوقف ولم تنتهي فعلينا أن نحاول أن نفهم المنطق الذي تنطلق منه العقلية الأمريكية بهذا الخصوص لكي نصل لاستنتاج مهم مفاده أن القول بأن الفوضى هي صنيعة حزب أمريكي دون آخر هو مجرد خطاب تسييس يحاول في هذه المرحلة الدقيقة أن يقنع المتابع بأن ترامب وهو الرئيس الجمهوري الذي أثبتت سياسته أنه مستعد لبيع مصالح بلاده لمن يدفع أكثر من دول المنطقة، وأن هذا الرئيس أكثر صلاحاً وإنسجاماً مع المصالح الإستراتيجية للمنطقة من رئيس ديمقراطي يريد خلق توازن قد يكون على حساب مصالح الدول العربية، في حين يتجاهل البعض الخط الإستراتيجي الذي يعمل ضمنه بايدن ومن على شاكلته وهو رفض فسح المجال لهيمنة أحادية لأي من دول المنطقة تجنباً لولادة شاها بلهوياً عربياً قادرعلى تهديد المصالح الأمريكية والهيمنة الإسرائيلية التي يجب أن تبقى سيدة المنطقة الوحيدة بسلاحها النووي.
لابد أن نقول أن تكتيك الفوضى الخلاقة بين الحزبين هو الذي يختلف دون الإستراتيجي، فالجمهوري يسعى تكتيكياً للفوضى لتبقى الصراعات في مناطق التهابها لتجنيب الداخل الأمريكي من امتداد أسبابها، في حين الحزب الديمقراطي يسعى لاستمرار الفوضى من أجل خلق واقع مرن لتوازنات المنطقة يمكن لأمريكا اللعب بها خدمة لتحقيق الأهداف الوطنية الاستراتيجية.
أما إستراتيجاً فهناك شبه تطابق بين الحزبيين فيما يتعلق بضرورة إستمرار الفوضى الخلاقة، فالحزبان يعملان على استمرار حالة عدم الاستقرار في العالم الإسلامي والعربي، إضافة لخلق منافسة بين الدول مع ضمان التفوق الاسرائيلي، وخلق الظروف المواتية لتنمية مبيعات السلاح على جميع المستويات، وابقاء دول المنطقة على اعتماديتها على امريكا، و إستعمال تلك الدول كعناصر تفوق تجاري وإستراتيجي وعسكري لمواجهة التمدد الصيني والروسي في المنطقة.
بايدن وملامح إعادة التشكيل
وبعد قراءة المشهد بأبعاده التاريخية والإستراتيجية، فمن المهم هنا أن نحاول التحديد وبشكل واضح ماهية ملامح إدارة الرئيس الحالي جو بايدن في سياق هذه الحالة التي ربما توصف بفوضى او ربما نسميها إعادة تشكيل، ولتسليط الضوء بشكل واضح سأورد ستة نقاط أراها ستكون محور سياسة بايدن و طواقمه المعنية بالخارجية والأمن القومي:
- ملامح مرحلة بايدن في إعادة تشكيل المنطقة.
١- إعادة تحديد مهام الدول الإقليمية في خدمة مشروع الهيمنة الأمريكية.
٢- الضغط على دول المنطقة كل حسب مدى استقلاله خلال سنوات ترامب وذلك لإعادتها لواقع دورها السابق في الهيكل العام للمشروع الأمريكي في المنطقة والعالم.
٣-إعادة ايران لمحيطها في سبيل الحد من خطر عزلها في المدى القريب والمتوسط عن المجتمع الدولي.
٤-محاولة حل بؤر التوتر العربية في سياق خدمة مشروع امريكا لواقع شرق أوسط متوازن القوى لكنه مشغول بتخوفاته تحت مظلة استراتيجية أمريكية لمواجهة التمدد الصيني والروسي في المنطقة.
٥-الدفع نحو تفوق اسرائيلي حقيقي بخلق تحالف عربي معها لضمان جبهة قادرة على مواجهة اي انفلات ايراني يهدد إسرائيل ويضر بمصالح أمريكا في المنطقة.
٦-الدفع نحو إصلاحات سياسية في الدول العربية المحورية لخلق عوامل داخلية من خلالها يمكن الضغط على القيادات المتنفذة بهدف إعادتها لمسار ما تريده أمريكا في حالة حادت عن السياق العام المحدد.
من أكثر الأمور التي تثير القلق من عودة أمريكا بايدن لسياسات أمريكا أوباما هو ما يتردد عن عودة الإداره الأمريكية الحالية لمسار الخطة المعروفة بـ(خطة الدراسة الرئاسية التنفيذية ١١) خصوصاً مع عودة المشاركين في إعداد تلك الدراسة الى مناصب قيادية في إدارة بايدن على رأسهم”جاك سوليفان” مستشار الأمن القومي وغيره.
وبصرف النظر عن الخطة فإن الإدارات الديمقراطية منذ عقود تعمل على إستراتيجية متماثلة في الهدف عبر عدة خطوات أصبحت معروفة وثابتة في النهج الذي تدير به صراعات المنطقة، فمسألة خلق الاضطرابات في المنطقة هو ركن أصيل للحزب الديمقراطي لاعتبارات أولها يتعلق بمسرحها الدولي والذي يتمثل في التلاعب بالدول التابعة للفلك الأمريكي وضمان وجود نقاط ضعف دائمة و ذرائع جاهزة للضغط على الأنظمة من أجل إعادتها كما قلنا سابقاً للمسار الذي به تخدم الأجندة الأمريكية، أما فيما يتعلق بمسرحها الداخلي فمن أجل كسب تأييد الأقليات العربية و الإسلامية والشرق أوسطية بالعموم في أمريكا في مسعى الحزب لضمان أغلبية أصواتها في السباقات الانتخابية.
كما ستعمل الإدارة على الدفع بعودة المنطقة لحالة اللاتوازن ولكنها قد لا تكون بذات الطريقة ولا الدول التي شهدها الربيع العربي، بل قد تعود من خلال تحييد دور دولة رئيسية أو دعم تكتلات إقليمية غير تقليدية أو تحويل ميزان القوى لأقطاب جديدة، فالظروف اليوم تغيرت عما كان عليه الحال في عهد أوباما، حيث تغيرت مراكز القوى الإقليمية وتنامى خطر الدور الروسي و الصيني وأصبح أكثر تغلغلاً وإجتذاباً، إلى جانب نمو الشعور باستقلال القرار السياسي الإقليمي الأمر الذي أعاد رسم خارطة الاستهدف الأمريكي، وأخيراً تزايد التمدد الإيراني وقدرته على تهديد المصالح الأمريكية.
إستمالة إيران لا مشاركتها
عند الحديث عن الموقف الأمريكي الحقيقي من إيران ودلالات الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الأمريكية الجديدة لاستمالة إيران مجدداً من أجل عودتها للإتفاق النووي، علينا أن نعي أن الموقف الأمريكي من إيران هو في الأساس في سبيل إعادة المنطقة لحالته السابقة من التقلبات التي يمكن لأمريكا ضبطها بشكل يخدم مصالحها، كما أن الهدف من الاستمالة هو تحييد خطر ايران في المدى القريب والمتوسط وذلك من أجل كسب الوقت لبناء منظومة عربية إسرائيلية لمواجهة أي خطر مستقبلي على مصالح أمريكا في المنطقة، مع العلم أن إيران لا يمكن لها في أي من الظروف الحالية أن تصبح شريكة لأمريكا أو أن تصبح أمريكا شريكة لإيران وهو أمر كلا الطرفين على علم به يقيناً.
الطائفية لم تخفت لتعود
وكما هو الخوف من قدوم إدارة بايدن من أجل موجة جديدة من الربيع العربي والتي حاولنا أعلاه تبيان مواطن الإختلاف الأساسية بين العهدين الديمقراطيين، فإن الخوف من مسألة إعادة الصراع الطائفي في المنطقة للواجهة يبقى أحد المسائل التي تثير الإنتباه و الحذر، خصوصا وأن الفوضى الخلاقة كانت شرارتها في الأساس طائفية في العراق،ولعله من المهم هنا التنويه لعدة مسائل لابد أن نأخذها في عين الاعتبار عندما نتحدث عن العامل الطائفي في صراعات المنطقة، فحالة التشكك نابعة اليوم من تراكمات حرب العراق وليست وليدة اليوم ولم تخفت كما يتصور البعض، فالفاشية القومية مثلها مثل الطائفية الدينية أصبحت عنواناً للمرحلة منذ أن أعطى لها ترامب إسماً جديداً “الشعبوية” فتجلت في الشرق الأوسط بصيغها القومية وتنامي الطائفية، ونراها تتزايد في موقف جموع من المواطنين العرب من القضايا العربية التاريخية وأهمها “فلسطين”، وبين الشيعة والسنة في إتهام الشيعي بموالاة إيران والسني بتبعيته لأمريكا، وكذلك نراها بتزايد نزعة العداء والاحتقار للأجنبي المقيم في الدول العربية.
معضلة التعامل
وأختم بالتعريج على محاولة وضع أسس لمعالجة المعضلة الأساسية الماثلة في الكيفية التي يجب أن تتعامل دول المنطقة بها مع الإدارات الأمريكية وتذبذب المواقف التكتيكية حول قضاياها، فنقول إنه لابد لدول المنطقة أن تعي جيداً أن التذبذب يعد من أهم سمات الأنظمة الديمقراطية وهو أمر واقع لا مفر منه وسيستمر على الأقل في المستقبل المنظور، وعليه فمن المهم أن تكون الدول قادرة على الوصول لحالة توافق مع النظام السياسي الأمريكي لحل مواطن الخلاف الدائم والمتجدد، وذلك عبر التعامل مع تلك الاختلافات وإلغاء أسباب وجودها، إلى جانب بناء موقف موحد لدول المنطقة على أن يعيد ذلك شيئا من ميزان القوى التفاوضية بين أمريكا ودول المنطقة لوضع أكثر إتساقاً، إلى جانب تحديد مسئوليات والتزامات كل طرف من العلاقة والعمل بموجبها بإلتزام وتفاهم إقليمي وأمريكي.