العلاقات الدولية

التأثير المتوقع للانسحاب الامريكي من افغانستان على المنافسة السياسية الداخليه في امريكا

بقلم: أحمد الحنطي – كاتب متخصص في الشأن الأمريكي

خاص بالمركز العربي للدراسات الأمريكية

ماذا ستكون آثار ما يحدث في أفغانستان على التنافس السياسي الداخلي الأمريكي على المديين القصير والمتوسط؟؟ يمكن إختصار الإجابة بأنه لا تأثير على المدى المتوسط وبأن التأثير على المدى القصير غالباً سيكون محدوداً .. لكن كعادة الإجابات المختصرة فهي لا تشفي غليل الراغب في معرفة الأسباب وراء هذا الإستنتاج او ذاك كما أنها تهمل بعض الإحتمالات الأقل رجوحاً والمؤشرات التي يمكن مراقبتها لتحديث التوقعات مستقبلا .. وهذا كله سنحاول مناقشته في هذا المقال.
ماحدث في أفغانستان هو أن الرئيس ترمب صعّد من الضغط بإتجاه تسريع سحب القوات الأمريكية لانهاء الوجود الأمريكي هناك .. هذا ليس هدفاً جديداً فقد كان هدفاً معلنا لأوباما قبل ان يصل للرئاسة وسعى له طوال سنوات رئاسته وتعرض للضغوط بل ولبعض الخسائر السياسية بسببه لكنه في النهاية فشل في تحقيقه .. الإنسحاب من أفغانستان وإغلاق سجن قوانتانامو كانا أكبر فشلين في أجندة اوباما التي سعى لتنفيذها خلال سنوات حكمه.
ترمب دخل البيت الأبيض وسحب القوات الأمريكية من العراق وأفغانستان على أجندته أيضاً .. وكأوباما تعرض للضغوط ولبعض الخسائر السياسية أيضاً .. لكن مافعله ترمب في أفغانستان في أواخر سنوات حكمه هو أنه اندفع في مسار التفاوض مع طالبان بغرض تحقيق خروج سلمي للقوات الأمريكية .. الدافع لذلك -بإختصار مخل يمكن لمن يريد تلافيه ان يبحث في مصادر العلوم العسكرية أكثر- ان الإنسحاب يعني ببساطة أن القوات تقل وبالتالي قدرتها على الردع تقل مما يهدد بهجوم العدو وبالتالي تحقيق خسائر عالية .. تلافي هذه الخسائر يتم غالباً بأحد أسلوبين .. إما الإتفاق على خروج آمن مع العدو .. او زيادة أعداد القوات مؤقتا ورفع حدة وكثافة الهجوم لإبعاد خطر العدو بدرجة تكفي لتحقيق انسحاب أكثر أمناً.
الخيار الثاني هو ما فعله نيكسون مثلا في فيتنام وقدم مقابله تنازلات لروسيا والصين في مقابل عدم ضغطهم ضد الزيادة المؤقتة للقوات الأمريكية وشراسة القصف لتأمين الإنسحاب .. وان لم يتمكن نيكسون من إتمام خطته بالكامل حيث لم يكتمل الإنسحاب إلا بعد استقالته.
ماحدث هو أن الأمريكان دخلو في مفاوضات مع طالبان لتأمين الانسحاب .. طالبان بدورهم كانو يرون انهم الأقوى على الارض في مواجهة الحكومة المركزية المدعومة أمريكياً وأن عامل الوقت يلعب لصالحهم لذا ليسو مضطرين لتقديم تنازلات كبيرة لصالح الحكومة حتى لو قدمو الضمانات الكافيه للأمريكان ليخرجو بسلاسة وأمان.
وهذا ماحدث فعلا حيث اتفق الأمريكان مع طالبان على وقف إطلاق النار وترك الجنود الأمريكان ينسحبون بسلاسة وأمان تامين بدون أي إشتباكات او محاولة إستغلال اي نقاط ضعف تنتج عن الإنسحاب .. لكنهم لم يقدموا أي تنازلات بخصوص أي شكل من أشكال التعاون مع الحكومة المركزية سواءاً كان هذا على شكل نوع من أنواع تقاسم السلطة او حتى ايقاف الصدام العسكري معهم .. بقي المفاوضون الطالبانيون في قطر يقدمون رجلاً ويؤخرون أخرى ويمططون في المفاوضات معتمدين على ان عامل الوقت في صالحهم.
دخل بايدن البيت الابيض وأمامه إتفاقية ترمب وقرر تنفيذها فعلا وأصبح الباقي تاريخا كما يقول الأمريكان في التعبير الدارج.
لسنا هنا في معرض تقييم حسن أو سوء قرارات ترمب أو بايدن او مدى حسن او سوء الاطروحات التي تدافع عن هذا او تهاجم ذاك .. بل في معرض دراسة تأثيرها على الواقع السياسي الداخلي الأمريكي.
بايدن إعتمد في قراره بالدرجة الأكبر على كون تأييد سحب القوات -مهما كان الثمن- كبيراً جداً .. فقد كان يرى أن من سيهاجمونه أمامهم أحد سبيلين.
الأول أن يهاجموا فكرة الإنسحاب نفسها وأنه كان يجب على الأمريكان البقاء في أفغانستان فترة أطول .. وقد رأى أن هذا الهجوم إن حدث سيكون معدوم التأثير لانه كما ذكرنا الغالبية العظمى من الأمريكيين يريدون الإنسحاب بسرعة.
الثاني أن يهاجموا أسلوب الإنسحاب .. أطروحات من نوع “كان بالإمكان إرسال الأربعة آلاف جندي المتواجدون لتأمين المطار الآن قبل شهر والضغط على طالبان في المفاوضات أكثر بإيهامهم بأن بايدن يفكر جدياً بإلغاء اتفاق ترمب لضمان تحقيق مستوى أمن أعلى للحكومة المركزية وإنسحاب أكثر تأميناً وتنظيماً من الفوضى التي نراها الآن.”
بايدن رأى أن هذا الطرح مهما بدا مغرياً خلال الأحداث إلا أنه سيفقد بريقه سريعاً حيث سيتمكن من إقناع الناخبين بأن تأمين الحكومة المركزية مستحيل مهما طال البقاء وطالبان قد تلتزم بأي إتفاق مع الأمريكيين مؤقتاً لأنها تريد خروجهم فعلاً لكنها ستنقض بعدهم مباشرة مهما كانت تفاصيل أي إتفاقات تمت معهم بالتالي لم يكن من المجدي تضييع مزيد من الوقت وإراقة مزيد من ماء وجه أمريكا .. الإنسحاب سريعاً أفضل.
رأينا بوادر ذلك فعلاً في خطاب بايدن الذي وجهه للمواطنين بخصوص الإنسحاب .. رغم أنه تحمل مسؤولية القرار وقال بصراحة أنه هو الرئيس وهو من يتخذ القرار وهو من يتحمل مسؤولية نتائجه .. إلا أن هذا جاء في وقت متأخر من الخطاب وبعد محاولات متعددة للإختباء وراء التأييد الشعبي للإنسحاب وتبرير التوقف عن مساندة الحكومة بأنهم إذا لم يقاتلوا من أجل أنفسهم فلا يجب ان يقاتل الأمريكيين بدلا عنهم -في تأكيد لفكرة ان التأجيل لم يكن ليغير من الأمر شيئاً-.
هذا يجعلنا نصل لزبدة هذا المقال والتي كتبناه من أجلها .. ماذا سيكون أثر ذلك على التنافس السياسي الداخلي .. الشواهد التاريخية ترينا أنه على المدى المتوسط لن يكون هناك آثار كبيرة .. غالباً سينسى الشعب مرارة الإقرار بالهزيمة ومنظر الإنسحاب سريعاً فمنذ سنوات طويلة وهم يسمعون بأن هذه حرب لايمكن الإنتصار فيها .. بل وربما يكون هناك عامل مساند لمصلحة بايدن في تصويره بصورة القائد الجريئ الذي أنهى الحرب وأوقف الخسائر المالية والبشرية يوازن أي خسائر تنتج عما يحدث اليوم.
على المدى القصير هناك أثرين متوقعين .. الأول أن الهجوم سيزداد حدة على بايدن وإدارته .. وقد نرى مطالبات بإستقالة او إقالة بعض كبار المسؤولين سواء في القطاع الدبلوماسي او الإستخباراتي .. ليس من قبل إعلام اليمين فقط بل حتى من قبل الإعلام المحايد فهذا الإعلام يتحين -بوعي او بلاوعي- لأي فرصة لمهاجمة بايدن على الأقل ليثبت بأنه فعلها كما كان يفعل مع ترمب وأن الهجوم يتم على ما يرونه خطأً بغض النظر عن شخص الرئيس.
منذ دخول بايدن للبيت الأبيض وهو ينفذ ماوعد به بنجاح جيد من حزمة التحفيز الإقتصادي لتوسيع توفر تطعيمات الكوفيد ١٩ لمستويات فاقت الطلب كثيراً لتمرير إتفاق لاحزبي على مشروع للبنية التحتية .. أرقام الإقتصاد والبطالة في تحسن مستمر وحتى إنتشار المتحور دلتا مازال الأغلبية ينسبونه بالدرجة الاولى لرفض نسب عالية من سكان مناطق محددة لأخذ التطعيم (هذا قد يتغير لو تغيرت الأرقام ومناطق الإنتشار في قادم الايام).
بالتالي فهذه هي الفرصة الاولى منذ ٧ أشهر حكم فيها بايدن للهجوم عليه وقطاعات كبيرة من الإعلام لن تدعها تمر بدون ان تشبع لطماً وهجوماً عليه .. لكن هذا لن يستمر طويلاً وغالباً لن يكون له تأثير إنتخابي ملموس.
كيف يمكن قياس مدى صحة هذا الإستنتاج سريعاً؟؟ عن طريق قياس الرضى الشعبي عن أداء الرئيس .. الرضى عن أداء بايدن حالياً في أضعف مستوى له منذ دخوله للبيت الأبيض .. لكنه مازال جيداً بالمقاييس المعاصرة حيث أن معدل الرضى في حدود ٥٠% تقريباً .. إذا إرتفع هذا المعدل أو إنخفض إنخفاضاً محدوداً فهذا يعني أن بايدن لم يدفع أي ثمن حقيقي لما حدث على المدى القصير .. إذا إنخفض هذا الرقم بثلاث نقاط أو أكثر .. بمعنى أننا رأيناه يصل الى ٤٧% أو أقل فهذا يعني أن بايدن دفع ثمناً فادحاً على المدى القصير وقد لا يكون إستنتاجنا بخصوص المدى المتوسط صحيحاً.
الإستثناء الوحيد والهام لهذا التحليل هو ثبوت خطأ النظرية التي بني عليها قرار الإنسحاب من أساسه .. هذه النظرية تقول بأن أمريكا دخلت أفغانستان أصلا بهدف معاقبة المسؤولين عن الإرهاب الذي يستهدف امريكا ومنع تكرار ذلك مستقبلاً.
هناك الكثير من الأحاديث والتوقعات حول ماذا ستفعل طالبان في قادم الايام .. هل ستمارس التشدد الداخلي بنفس الأساليب والمستويات السابقة ام لا؟ والاهم هل ستعود لتحالفاتها مع التنظيمات الإرهابية وتجعل من أفغانستان ملاذاً آمناً لهم ومركزاً لتصدير الإرهاب مجدداً أم لا؟
نظرية الإنسحاب تعتمد على أن هذا لن يحدث وأن طالبان تعلمت الدرس ولن تسمح بتكرار أخطاء الماضي خصوصاً أنها ستنتقل من كونها حركة قتالية تسعى للسيطرة إلى نظام يسعى للحكم وإدارة الدولة.
لكن الجزم بصحة هذا الأمر بدون بحثه بالتفصيل تفكير رغبوي لا يمكن الإعتماد عليه لبناء استنتاجات صلبة .. لنضع توقع حول ماستفعله طالبان علينا أن نعرف ماهي الأجنحة الموجودة داخل الجماعة وماهي توجهاتها ومامدى قوتها على مستوى القيادات والقواعد وماهي مؤشرات سعي كل جناح لتطبيق أجندته والنتائج المتوقعة لهذه المؤشرات ومن ثم نراقبها ونضع إستنتاجات.
لكن هذا كله خارج مجال بحثنا المتعلق بالسياسة الأمريكية الداخلية لذا لن نخوض فيه بل سنتركه لمن يمتلكون أدواته .. وسنكتفي بوضع الإحتمالات ونتائجها.
اذا إلتزمت طالبان بما يتوقعه المتفائلون وقطعت صلتها بالتنظيمات الإرهابية وتمكنت من لجمها على أرض أفغانستان فعلاً فهذا سيكون نصراً لقرار الإنسحاب وترك طالبان تسيطر على كل شئ بسرعة .. قد لا يكون لهذا نتائج إنتخابية إيجابية لصالح التيار البايدني لكنه سيكون رداً على إنتقاد طريقة الإنسحاب وسيمحو أي أثر سلبي نتج عن فوضى الإنسحاب.
أما إذا بدأت ظواهر التحالف بين طالبان ومنظمات كداعش والقاعدة بالظهور على السطح بوضوح بل والأسوأ لو إنطلقت أعمال إرهابية من هناك فعلاً فهذا سيكون ضربة قوية لسياسة بايدن وسيكون عليه أن يتخذ ردود فعل قوية وفي كل الحالات سيخسر سياسياً .. حجم الخسارة سيرتبط بحجم الرد ومدى فاعليته لكنها ستظل خسارة وقد تكون خسارة كبيرة يمتد أثرها لما وراء إنتخابات ٢٠٢٢.
لكن هناك أثراً آخر أيضا على المدى القصير للفوضى الحالية يجب على المتابع المدقق أن لايغفل عنه .. أجندة بايدن الداخلية خصوصاً فيما يتعلق بالإقتصاد ومشاريع البنية التحتية وما تستلزمه من رفع لمعدلات الإنفاق وسقف الدين سيلقى دفعة جيدة.
جزء لا بأس به من المعارضة لهذه المشاريع -خصوصاً فيما يتعلق برفع سقف الدين- هي معارضة بحكم الضرورة وليست بحكم المبدأ .. بمعنى أن قطاعاً من السياسيين الجمهوريين الذين يحاربون هذه المشاريع ويضعون أنفسهم كسد منيع أمام رفع سقف الدين يفعلون ذلك لأنهم بحاجة لمعارضة بايدن ومهاجمته وليس لأنهم يؤمنون بأهمية هذه المواقف.
هذه الفئة ستجد في فوضى الإنسحاب مجالاً خصباً للهجوم والمعارضة والظهور كرأس حربة في الصراع مع بايدن والليبراليين من وراءه بدون الحاجة لمعارضة أمور لا تهمهم او حتى قد يرونها مفيدة .. وقد يأملون أيضا أنهم يستطيعون تحقيق الفائدة من المشاريع التشريعية لبايدن بدون ترك بايدن يحصد مكاسب إنتخابية كبيرة نتيجة لتمرير أجندته.
هذا سيجعل من طريق مرور بعض بنود أجندة بايدن أكثر سلاسة مما سيساهم في تمكين بايدن من تمرير أجندته بنجاح أكبر وهي المهمة الصعبة جداً بل والقريبة من الإستحالة في ظل الأغلبية الضئيلة في مجلسي الكونقرس والتي تجعل كل بند ضحية لتجاذبات الأجنحة المختلفة وتحد كثيراً من قدرة القيادات على تمرير القرارات والقوانين وهذا مهم لأن تمرير أجندة بايدن سيكون البند الرئيسي في الدعاية الإنتخابية التي سيقدمها الديموقراطيون في إنتخابات ٢٠٢٢ و ٢٠٢٤ سواء لأن هذه الأجندة هي أنجح مافعله الديموقراطيون مؤخراً وبالتالي سيطلبون إعادة انتخابهم لإتمام تنفيذها أو لإبعاد الأثر السلبي لبعض بنود دعاية أقصى اليسار والتي يعتقد الديموقراطيون أنها أثرت عليهم سلباً في إنتخابات ٢٠٢٠ ويرون الجمهوريون اليوم يسعون بشكل شبه حصري للتحشيد ضدها جاعلين من المعارك الثقافية بندهم الرئيسي في هاتين الدورتين الإنتخابيتين.

اظهر المزيد

اترك تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق
%d مدونون معجبون بهذه: