
بقلم رامي ابوشهاب : ما زال المشاهد يتوق إلى تلك الأعمال التي تنبض بحس إنساني، ولاسيما بعد أن تراجعت حدة «الإنساني» وتمثيلاته في الواقع والفن، ففي عصر بدأ يخلو من الرّوح والدفء البشري، وتحديداً في أزمنة البرود الإلكتروني، وسطوة وسائل التّواصل الاجتماعي، والذكاء الاصطناعي، فضلاً عن العوالم الجافة التي تعكسها شاشات الحواسيب، والهواتف المحمولة، كما الإبهار الفني المنتج تقنياً والقائم على فائض العنف وتوقعات بانتهاء العالم، ومن هنا، فلا جرم، أن تسعى النفس إلى تلمّس حدودها في مجال آخر، أو لنقل في مجال مستعاد، وهذا ما نعاينه بوضوح في فيلم «الاستعراضي العظيم» الذي يعرض حالياً على شاشات السّينما في جميع أنحاء العالم.
الفيلم من إنتاج شركة Twentieth Century Fox ومن إخراج مايكل غراسي، وبطولة هيو جاكمان.
العودة إلى الرومانتيكية
يأتي هذا الفيلم ضمن سلسلة أفلام بدأت تشكل ـ مؤخراً ـ نسقا مستعاداً في هوليوود، ونعني الأفلام الموسيقية التي تراجع حضورها في العقود الأخيرة، ولا سيما في ظل التّحولات التي دشنتها أفلام الحداثة، وما بعدها، وبالتحديد مع فيلم Pulp Fiction وصولاً إلى القفزة الواضحة في الإخراج، والإبهار التقني الذي دشنه مخرجون كستيفن سبيلبرغ، وجيمس كاميرون، وكريستوفر نولان، غير أن هوليوود، بدأت تستعيد شيئاً من إيقاع روائع السينما الموسيقية التي نتذكر منها Singing in The Rain و The Sound of Music. لقد ظهرت في السنوات الأخيرة ثلاثة أفلام شكلت نوعاً من الموجة، أو لنقل الردّة نحو العوالم الموسيقية، فلا جرم أن تحقق نجاحاً كبيراً، ما يعني الرغبة في استعادة حقبة سينمائية، تنهض على الحوار الموسيقي والأغاني، ولكن على خلفية حكاية زاخرة بالجمال والقيم والمقاصد القائمة على التكوين الدرامي المحكم، كفيلمي «البؤساء» 2012، و»لا لا لاند» 2016. وكما هو ملاحظ فإن هذين الفيلمين بالإضافة إلى الفيلم الأخير، اشتركت في أنها حققت نجاحاً لافتاً، وهذا يفسر أن ثمة إحساساً عميقاً لدى المشاهد في التّخفف من فائض المصطنع، والرغبة في البحث عن عوالم أكثر إنسانية وجمالاً، أو تعبيراً عن مشاعر حقيقية بلا تعقيد.
البطل وشخصياته الغرائبية
الفيلم بدأ بحدث قوي، حيث يصفع أحد الرجال الأثرياء طفلاً «بارنوم» ـ ابن الخياط ـ الذي يعمل مع والده أثناء القيام ببروفة لبذلة السّيد، هذه الصفعة تأتي على مرأى الفتاة الصغيرة ابنة الرجل الغني، في حين أن الصفعة ترافقت مع عبارة «لا تنس نفسك، أنت ابن الخياط».. هذا الفتى يعيش يتيماً بعد موت والده، يمضي في الشوارع، يسرق، ويجوع، ومن ثم ننتقل في قطع زمني إلى مشهد، نرى فيه الطفل وقد أضحى شابا، يأتي لخطبة الفتاة الجميلة (ابنة الرجل الثري)، التي سرعان ما تتمرد على طبقتها، وتتجاوز تهديد والدها، وتحذيره بأنها ستعود في يوم ما. تبدو القصة إلى الآن نمطية، ولا شيء يبدو ممتعاً سوى الأداء الغنائي، غير أن الأمور، تأخذ منحى آخر، فهذا الزواج ـ بكل ما يحمله من سعادة تجمع بين الزوجين وطفلتيهما ـ يعاني من اختبار في ظل الصّعوبات المادية مع عدم قدرة الأب على توفير ما تحلم به عائلته، ولاسيما بعد طرده من عمله المكتبي، غير أنه سرعان ما تطرأ له فكرة الاقتراض من البنك لشراء متحف شمعي، ولكنه لا يحقق نجاحاً، ومن هنا، نعاين التحول حين يكتشف «بارنوم» بأن البشر مأخوذون بالفضول، وتحديداً المختلف أو الغريب، وهنا يسعى إلى جمع أكبر عدد من الشّخصيات الغريبة بهيئتها، كالقزم، والمرأة الملتحية، والرجل الموشوم، والأبرص، والسمين، أو الضخم، وكل ما هو غريب وعجيب، أو مخبوء في الطبقات المعتمة من حياة المجتمع، غير أن «بارنوم» يسعى لإخراجهم من حالة الانكفاء والانعزال التي يعيشونها، لأنهم مميزون، وهذا ما يمدّهم بالثقة. تنجح العروض، وتروق لكثير من الجماهير التي تأتي لمشاهدة هذه الغرائب، ولكن هناك دائماً من يرفض هذا الاختلاف، وينفر منه، ومع ذلك يبرع «بارنوم» في تقديم العروض، وكي يحقق حضوراً واحتراماً، ولاسيما بعد أن يسخر المجتمع بنزعته الطبقية من ابنة بارنوم في مدرسة الباليه، حيث ينعتون والدها ببائع الفستق، ومن أجل هذا، يستعين «بارنوم» بممثل شاب له احترام وتقدير في المجتمع، وبذلك تتمكن فرفته من تقديم عرض أمام ملكة بريطانيا. ومع تلك الشهرة والثراء الكبيرين، بيد أن بارنوم يبقى أسير ماضيه وطبقته كونه لا ينتمي إلى الطبقة العليا، ففي عمقه جرح، ورغبة بتجاوز مركب نقص، وفي لحظة تحول يخرج في جولة غنائية مع مطربة أوروبية، يحقق فيها نجاحاً كبيراً، ينسى لبعض الحين زوجته وعائلته، كما يهمل فرقته ويتعالى عليهم، لقد أنساه نجاحه الأشخاص الذين كانوا حوله، أو الذين دعموه، إلى حد أن المطربة الأوروبية تقع في غرامه، ما يتسبب بانفصال مؤقت بين الاستعراضي العظيم وزوجته التي سرعان ما تعود إلى بيت والدها، لكن بارنوم يدرك أن حبه لزوجته وعائلته يفوق أي شيء آخر، ليستعيد في ما بعد رشده، فتنهار الجولات الغنائية مع المطربة الأوروبية حينما يرفض «بارنوم» حبها، ويخسر كل شيء، يصادر البنك منزله، في حين يحرق المتشددون مسرحه، فيخسر كل شيء، ولا يبقى بقربه سوى الأصدقاء، أو تلك المجموعة التي نبذت من المجتمع ـ لكونها مختلفة ـ في حين أن صديقه الممثل الشاب ـ الذي ينقذه بارنوم من الحريق ـ يمد يد العون، ويسهم بتمويل الفرقة كي تعود إلى تقديم عروضها، وللنجاح مرة أخرى.
الاختلاف وقبول الآخر
نجح الفيلم في إيحاء وتسريب رؤية واقعية للمجتمع بطبقتيه وعنصريته ونبذه للآخر، ولا سيما عبر سلسلة علاقات متعددة، ومنها علاقة بارنوم مع زوجته البورجوازية، أو علاقة الشاب الممثل النبيل مع الاستعراضية الجميلة السمراء التي يرفضها أهله، وينعتونها بالخادمة، كما في الأماكن غير المسموح بها للملونين بالحضور، أو رفض المجتمع للأشخاص المختلفين شكلاً، أو عرقاً، أو طبقياً، فجاءت العبارات على لسان الشخصيات، التي تختزل منظورها للحياة، ومنها الدعوة إلى قبول الآخر، والحب والصداقة والتضحية، والجري خلف الحلم وعدم الاستسلام أو الإيمان بقوة الفن على التغيير، حيث يأتي على لسان بارنوم في حواره مع الصحافي الذي يرى أن مسرحه لا يقدم إلا فناً هباطاً، فيجيب قائلاً «بأن الفن النبيل هو الذي يسعد الناس»، ومن أجمل العبارات التي وردت في الفيلم «لا يستطيع أحد أن يحدث فرقاً أو اختلافا، إذا كان كالآخرين، أو إذا كنا متشابهين».
فالاختلاف ليس سبباً لننبذ بعضنا بعضا، بل على العكس من ذلك، فإنه يعدّ مصدر قوة، وتميزا سواء أكان للإنسان أو المجتمعات، هذا الاختلاف هو الذي صنع عظمة الولايات المتحدة الأمريكية التي نهضت قيمها على مبدأ الاختلاف الذي بدأ يتعرض لتشقق واضح في عصر ترامب.