دراسات النظام السياسي

أستراتيجية “الماذاعنية” في خطاب ترامب السياسي

خاص بالمركز العربي للدراسات الأمريكية

بقلم: سحمي الغامدي – باحث في الإتصال والخطاب السياسي.

السياسة من منظورها العام مجموعة من الانشطة والممارسات يقوم بها الأفراد عن طريق مؤسسات حكومية أو مدنية, وفي حدود ضيقة تكون عملاً فردياً والذي في نهاية المطاف يقود إلى العمل المؤسسي حتي يكتسب الصفة الشرعية و القبول الشعبي. وإذا ما نظرنا إلى هذه الأنشطة والممارسات والتي تؤدي إما إلى صنع القرار أو التأثير على صانعي القرار نجد أن هناك عوامل تلعب دوراً حاسماً ومؤثراً في العملية السياسية: السياسيون وما يحملونه من سمات وكاريزما ومهارات, الظروف المحطة سواء كانت إقتصادية, إجتماعية, أو حتي الظرف الزماني وتداعياتها على العمل السياسي. ومن هذي العوامل أيضاً الخطاب السياسي والذي تؤثر فيه العوامل السابقة. 

الخطاب السياسي له من الأهمية ما تجعله يلعب دور الحسم في كثير من مجالات العمل السياسي, الإنتخابات على السبيل المثال وما يصاحبها من حملات تستخدم الخطاب السياسي للتأثير وإقناع الناخبين. هذه الحملات تتخذ من وسائل الإعلام بجميع أنوعها منابر تبث من خلالها برامج وأفكار, ورؤية المرشحون. المواجهة المباشرة مع الجمهور أو الخصوم وسيلة لا تقل أهمية عن وسائل الإعلام, المناظرات السياسية والتي تجرى خلال الإنتخابات الأمريكية مثال جيد على أهمية المواجهات المباشر في بث الخطاب السياسي للمرشحين والذين يهدفون إلى إبراز قوتهم التأثيرية على الناخبين. هذا يوقودنا إلى التمعن في التكتيكات والإستراتجيات المتبعة في الخطاب السياسي والتي تجعل منه أكثر تأثيراُ وقوة. كثير من هذه الاستراتيجيات عامة تسخدم بإختلاف التنفيذ من حملة إلى أخري أو مرشح وآخر. إلا أن هناك أستراتيجيات تكاد تكون سمه يعرف بها سياسي ما أو مرشح رئاسي. “الماذاعنية” أو “Whataboutism” تكتيك يستخدم في الخطاب السياسي وخصوصاُ في اللفضي منه إما في المناظرات أو في المؤتمرات الصحفية, هذا التكتيك يكاد يكون هو السمة السائدة والمستخدم من قبل الرئيس ترامب, يكاد لا يخلو خطاب للرئيس أو مؤتمر صحفي أو مقابلة إلا ويكون “ماذا عن؟” بشكل أو بآخر حاضراُ كإيجابة في شكل سؤال لأغراض ستشرح من خلال هذه الدراسة. 

نبذة تاريخية

ولكن قبل ذلك لنلقي نظرة سريعة عن أصل هذا المصطلح ونشئته. أُستخدم مصطلح “ماذاعنية” أو “ماذا عن” في السبعينيات الميلادية من القرن الماضي خلال الصراع الطائفي بين الأتحاديون والقوميون في أيرلندى الشمالية, كذلك أًستخدم لشجب أعمال الجيش الجمهوري الأيرلندي. لكن برز هذا المصطلح أثناء الحرب الباردة ومن قبل الأتحاد السوفيتي لمواجهة النقد الغربي. وأصبح أسلوباً بارزاُ للكرملين لدحض أتهامات الغرب, كان هذا النمط يعتمد على البحث عن وقائع مماثله في دول الغرب والسؤال عنها في حال وجهَ الإنتقاد للأتحاد السوفيتي. ويبدو أن هذا الأسلوب قد راق لمن تلى الأتحاد السوفيتي بعد تفككه وهنا أعني روسيا الأتحادية والرئيس فلاديمير بوتين تحديداُ.

التعريف,الأستخدام, والأغراض

“الماذاعنية” أو “ماذا عن؟” مجموعة من المغالطات المنطقية الهدف منها تشويه الطرف المعارض وإسقاط عليه صفة الرياء والتناقض دون دليل مباشر. كذلك تعتبر تحوير وتحويل بلاغي أو سؤال بلاغي بغرض صرف الأنظار عن النقطة محل الخلاف أو التهام ودفع النقد الموجه في إتجاه آخر. بعض المختصين في الخطاب السياسي يعتبر “الماذاعنية” نوع من المناورة الجدلية يستخدمها طرف ما للتملص من الإجابة عن سؤال حول قضية محل نقد والابتعاد بدفة النقاش بإتجاه الخصوم. هذا النوع من المناورة هو إتهام في صيغة سؤال لتسليط الإنتباه على حالات أو قضايا مشابه كان للخصوم دور فيها. من جهة أخري يقوم هذا النوع من المغلاطات بتسليط الضوء على التكافؤ الأخلاقية بين قضيتين غير قابلتان للمقارنه مع بعضهما البعض وذلك في سبيل خلق حالة من عدم الفهم وتشتيت الأنتباه. 

أستراتيجية ترامب

كل ماسبق هو مقدمة تساعدنا في تحليل خطاب الرئيس ترامب ومحاولة الإجابة عن ما إذا الرئيس يتبع هذا الأسلوب للهرب من الإنتقادات وصرف الأنظار تجاه خصومه؟ وهل “الماذاعنية” علامة مسجلة بإسم ترامب أم أن هناك من سبقه في ذلك؟ وللإجابة على هذه الأسئلة أقدم من بعض الأمثلة على إستخدام ترامب لهذه الإستراتيجية وتفسير الغرض منها. البداية كانت في العام 2016 وفي خضم السباق الرئاسي نحو البيت الأبيض, أتبع ترامب وبصورة متكررة تغيير المواضيع أثناء مقابلاته لوسائل الإعلام بإنتقاد المرشحة الديموقراطية هلاري كلينتون وإدارة أوباما في الكثير من القضايا المتعلقة بالأمن القومي, السياسة الخارجية, الإقتصاد, والرعاية الصحية. كان ذلك في سبيل خلق حالة من السخط تجاه كلينتون وتشتيت الإنتباه عن الإنتقادات الموجهه له شخصياً. في 2017 وهو العام الأول للرئيس ترامب في المكتب البيضاوي, إندلعت إحتجاجات شارلوتسفيل في ولاية فرجينيا والتي بدأت كمسيرة قام بها أعضاء من اليمين المتطرف والفاشيون الجدد رفعوا خلالها شعارت مثل “توحيد اليمين” والمطالبة بالكونفدرالية, قابل هذه المسيرة متظاهرون ضد المتعصبين البيض وهنا قام شخص محسوب على اليمين المتطرف بإقتحام بسيارته تجمع مناهض وقتل سيدة من المتظاهرين. وجهت سهام الأنتقاد إلى الرئيس ترامب على تصريحه بعد الحادث مباشرة حيث قال أنه “يدين التعصب والكراهية من كل الجوانب” ولم يدن الطرف الذي ارتكب الجريمة ولم يسمه. حاول ترامب أن يغير أسلوب الإدانة ولكن كانت النتيجة نفسها حيث قال في وصفه للإحتجاجات “كان هناك أُناس جيدين” في كلا الطرفين. في المناسبات التي تلت الحادث وجه ترامب إنتقادة للطرف الآخر المناهض للعنصرية, فخلال لقائه الإذاعي مع مارك ليفين, وهو جمهوري عمل في إدارة ريغان وكذلك في حملة المرشح الجمهوري تيد كروز ولديه برنامج إذاعي شخصي, خلال ذلك القاء حمل ترامب مسؤلة الاضطرابات التي حدثت على الحركة المناهضة للفاشية أو ما تسمى ” antifa” إختصار ” anti-fascist activism”. وفي مناسبة أخرى وصفها بأنها الثقل الموازي لعنف المتطرفون البيض. لقد قال “أنظروا ماذا يحدث هناك,,, هناك أشخاص سيؤن في الطرف الأخر,, وإذا ما تمعنتم في ذلك ستعرفون ماذا حدث في شارلوتسفيل”. وفي تصريح له في أحد المؤتمرات الصحفية وصف ترامب الحركة بالمنظمة الإرهابية. كل هذا كان محاولة من الرئيس التملص والتهرب من إدانة الحركات العنصرية وأعضائها البيض وهو ما يقوي شعبيته لديهم والذين يعتبرهم قوة داعمة له سواءً على المستوى الشعبي أو في الإنتخابات. وكذلك سعيه لشيطنة الحركات المناهضة للعنصرية والتي بطبيعتها ليبرالية ومحسوبه على اليسار. لم يصرح ترامب ضد العنف من قبل العنصريون البيض, كان يحشر الطرف الأخر ويجعله على نفس الدرجة من العنف في تصراحاته تجاه اي حادث إجرامي تلى شارلوتسفيل, حادثة إطلاق النار في الباسو بولاية تكساس والتي وقعت في أغسطس من العام المضي مثال على ذلك. 

هذا التكتيك أسلوب ثابت يستخدمه ترامب عند مواجهة الإنتقادات وكأنه يقول “هناك ما هو أسوأ”. فبعد أن صرح مكتب الموازنة في الكونغرس وفقاُ لتقديراته أن خطة الجمهوريون للرعاية الصحية سوف تجعل 24 مليون مواطن من دون تأمين بحلول العام 2026. وبدلاً من الرد على هذه التقديرات وتوضيح برنامج الرعاية الصحية المقترح, شن ترامب هجومه على قانون الرعاية الصحية والمعروف ” Obamacare” وأنتقد حجم الصرف لدعم القانون من خلال دافعي الضرائب, جاء ذلك من خلال تغريدة للرئيس في تويتر حيث سأل “إذا كان Obamacare جيداً, لماذا تصرف الملايين من الدولارات من دافعي الضرائب لدعم القانون؟”. وفي تغريدة أخري أنتقد هذا القانون بأنه ساهم في إرتفاع تكاليف الرعاية الصحية ومحدودية الخيارات لملايين من الأمريكان. وهذا صرف للأنظار عن مدى سوء البرنامج المقترح من قبل الجمهوريون والآثار السلبية المترتبه عليه, وكذلك إبراز عيوب القانون الحالي المتبع وكأنه يريد القول أنه “إذا كان ما اقترحناه سيئً فلسنا وحدنا”. سبق ذلك تصريح لترامب عبر تويتر عندما سُلطت الأضواء على الأتصالات بين عضو مجلس الشيوخ السابق جيف سيشنز والذي أصبح فيما بعد المدعي العام وبين السفير الروسي سيرجي كيسلياك في العام 2016, غرد ترامب “من الذي قال أنه بعد الإنتخابات سوف نكون أكثر مرونه مع بوتين” في إشارة للديموقراطيين, وأضاف في تغريدة أخرى أن سيرجي كيسلياك سبق والتقى مع الرئيس السابق باراك أوباما 22 مرة في البيت الأبيض في الأربع سنوات التي سبقت أنتخابات 2016. والحقيقة أنه لم يقتصر إستخدام ترامب لهذا الأسلوب في الهروب من الأنتقادات أو تشتيت الإنتباه ولكنه أمتد حتى للدفاع عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين, في مقابلة للرئيس ترامب مع قناة فوكس الإخبارية وفي ردة على بيل أورايلي عندما قال أن الرئيس الروسي قاتل حيث قال ترامب “هناك الكثير من القتله,,ماذا,,هل تظن أننا دولة بريئة؟ كإشارة لضحايا التدخلات الأمريكية الخارجية. 

“ماذا عن؟” لم تكن محصوره فقط في الأمثلة السابقة ولكنها كانت الأبرز ولأنها صاحبت تصريحات ترامب عن أحداث كأنت حساسه. وبنظرة سريعة عن حضور “الماذاعنية” في تصريحات وردود الرئيس في مؤتمرات صحفية مختلفة: ماذا عن حرية التعبير؟ ماذا عن القنبلة التي وجدت في مسجد مينيسوتا؟ ماذا عن كوريا الشمالية؟ ماذا عن الجرائم القتل في شيكاغو؟ ماذا عن إيفانكا في قمة العشرين؟ ماذا عن سوق الأوراق المالية؟ ماذا عن 33,000 بريد ألكتروني التي حذفت؟ ماذا عن بنغازي؟ والكثير من الماذا عن.

المعايير المزدوجة,,,

ولكن هل “ماذا عن؟” في مجملها تعكس إنطباعاُ سلبياُ تجاه من يستخدمها؟ اليس من الممكن القول أن هذا السؤال يحمل إقراراً ضمنياً بأنه لا يوجد أحداُ كاملاً وأن المثالية وخصوصاً في عالم السياسة تعتبر سذاجة ومن يدعيها يحمل صفة النفاق؟. يقول جويل بولاك وهو كاتب سياسي أن المعارضين سواء من الديموقراطيين أو الجمهوريين التقطوا هذا المصطلح وأُستخدم كسلاح ضد الرئيس ترامب في وسائل الإعلام الرئيسية. وهو بمثابة درع يحتمون به لتغطية فشلهم وخسارتهم أمام ترامب في الإنتخابات. لذلك هم يحملون من المعايير المزدوجة ما تجعلهم منافقين مُراؤون, هم بهذا الإسلوب من الإنتقاد ليسوا ضدا ترامب وحده بل ضد المحافظون بوجه عام. الإزدواج في المعايير خطر حقيقي ويؤدي إلى تآكل الديموقراطية ككل, لم تتوانا وسائل الإعلام في التغاضي وتبرير والدفاع عن أخطاء الرئيس اوباما والتي أعتبرت في جرائم تستوجب عزل الرئيس ترامب. لذلك على المعارضين إذا كانوا فعلاً صادقون ومخلصون أن يطبقوا المعايير على الكل وذلك في سبيل حماية مبادئ الديموقراطية والتي يتشارك فيها الكل, على حد تعبير جويل بولاك.

ماذا عن الآخرين؟

نعود لسؤال هل “الماذاعنية” علامة مسجلة بإسم ترامب أم أن هناك من سبقه في ذلك؟ الحقيقة على المستوى الخارجي لا, فلقد كانت سلاح مستخدم في الدعاية ابان حقبة الإتحاد السوفيتي كما ذكرت سابقاُ. الرئيس بوتن والذي عمل في إستخبارات الإتحاد السوفيتي كي جي بي راق له هذا الأسلوب في مواجهة الإنتقادات والإتهامات. ففي رده في مقابله له مع شبكة إن بي سي على إتهام روسيا بالتدخل في الإنتخابات الأمريكية غير الموضوع وتحدث عن التدخلات الأمريكية حول العالم وهذا الرد يكاد يكون حاضراً في جميع لقاءات الرئيس الروسي إذا ما سُؤل عن التدخل الروسي. ليس فقط فيما يخص هذا الموضوع, “الماذاعنية” حضرت في مواضيع مثل ضم القرم وملاحقة المعارضين في الخارج وحتى فضيحة المنشطات للفريق الأولمبي الروسي. ويرى البعض أن أسلوب ترامب إنما تقليد لنظيره الروسي والذي يقول البعض أن ترامب يبدي إعجابه به في الحوارات المغلقة. على المستوى المحلي, لم أجد أثناء بحثي أن هناك من الرؤساء الأمريكيون من كان له سابقة في إستخدام هذا الأسلوب بصورة تكاد تكون سمه, إلا أنه في مايو من العام 1985 مولت وزارة الخارجية الأمريكية مؤتمراً حول مغالطة “التكافؤ الأخلاقي” وهو الوجه الأخر لمصطلح “الماذاعنية” كان الهدف منه المقارنة بين الغزو الأمريكي في العام 1983 لغرينادا و,هي دولة في جزر الهند الغربية في البحر الكاريبي، وبين الغزو السوفيتي لأفغانستان عام 1979. كان الهدف الظاهر هو المقارنة ولكن كانت نية الخارجية الأمريكية المبطنة هي تبرير غزو أمريكا للدولة الصغير وأنها ليست وحدها وهناك من سبقها وهو الإتحاد السوفيتي.

المصادر: 

1- The Roots of the ‘What About?’ Ploy by Ben Zimmer

2- Trump Embraces One Of Russia’s Favorite Propaganda Tactics — Whataboutism by Danielle Kurtzleben

3- Barceló Aspeitia, Axel Arturo. “Whataboutisms and Inconsistency.” 

4- The whataboutism at the heart of Trump’s focus on antifa by Philip Bump

5- Zak, Dan. “Whataboutism: The Cold War Tactic, Thawed by Putin, Is Brandished by Donald Trump.”

6- The Attack on ‘Whataboutism’ Is a Defense of Hypocrisy by Joel B. Pollak

اظهر المزيد

اترك تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق
%d مدونون معجبون بهذه: